أكلٌ عربي ومساجدُ وغالبية أجنبية.. تعرّف على مدينة ييوو الصينية مُتعدِّدة الثقافات

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/23 الساعة 15:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/23 الساعة 15:28 بتوقيت غرينتش

بعد أن خيَّم الظلام على شارع إكزوتيك في مدينة ييوو الواقعة شرق الصين، تجمَّع 3 صبية يمنيين حول رف شواء على الفحم يبيع كباب الضأن والخبز. وقاموا بتقديم طلبهم بلغةٍ صينية واثقة، وأجروا محادثةً سريعة فيما بينهم باللغة العربية.

وداخل مطعم "أربيل" المجاور، كان هناك رجلان أردنيان يتقاسمان طبقاً مليئاً باللحم المشوي والخضراوات، بينما جلس رجلان يُدخِّنان الشيشة في زاوية الشارع. وبالشارع أيضاً متجر اسمه "الزكين"، يبيع كلاً من المعكرونة سريعة التحضير واللحم الحلال. وكانت هناك أيضاً سيدةٌ إفريقية ترتدي الحجاب، وتحمل في يديها أكياس التسوق. ومن الجهة المقابلة، خرجت شابتان روسيتان من متجرٍ يبيع مزيجاً غريباً من الأحذية الرياضية والألعاب الجنسية، وفق ما ذكرت صحيفة الغارديان.

هذا المزيج من الجاليات، والأديان، واللغات عزَّز سمعة مدينة ييوو كواحدةٍ من أكثر المدن التي تشهد تعدُّديةً ثقافية في الصين؛ وهي تجربة جديدة مليئة بالمخاطرة، تجتذب الساعين وراء تكوين الثروات من جميع أنحاء العالم. وكما يقول مارك جيكوب في كتابه "Yiwu, China: A Study of the World's Largest Small Commodities Market": "يمكن الحصول على أي شيء مقابل دولار أو يوان".

السبب الذي يأتي من أجله البشر إلى هنا بسيط؛ إذ تتباهى مدينة ييوو بامتلاكها مركزاً تجارياً مذهلاً يُغطي مساحة 5.5 مليون كم مربع، ويضم أكثر من 75 ألف متجر وكشك. ويُعَدُ هذا المركز هو المُورِّد لمتاجر التخفيضات في مختلف أنحاء العالم: فيُورِّد الزهور الصناعية، والخرزات (السبح) المُلوَّنة، ورابطات الشعر، واللعب التي تُنفَخ بالهواء، وشرائط الزينة، وقبعات الحفلات، والمظلَّات، وتُعَد ييوو مصدراً لأكثر من 1.8 مليون منتَج، بما في ذلك 70% من زينة عيد الميلاد بالعالم.

ويقول غيردهار جانوار، رجل الأعمال الذي أصبح أول تاجر هندي يفتتح متجراً في ييوو عام 2002، قبل أن تُمهَّد الطرق وتُبنى ناطحات السحاب فيها: "اليوم، لا يمكن لتجار التجزئة من كل مكان في العالم الاستمرار دون منتجات ييوو. بإمكان أي شخص أن يأتي ويُنشئ تجارةً في ييوو، ويحصل على السلع ويبيعها في البلدان بجميع أنحاء العالم. ليس عليهم أن يذهبوا إلى أي مكانٍ آخر في الصين. فقد أصبحت مدينة ييوو متجراً يضم كل شيء في مكانٍ واحد".

بحث تدريس اللغة العربية

ولأنَّ الحكومة الصينية تدرك أنَّ أي سوق تحتاج إلى تدفق مستمر للمشترين، بعثت برسالةٍ مفادها أنَّ جميع الأجانب مُرحَّبٌ بهم. وكُتِبَت اللافتات في محطة القطارات باللغات الصينية، والإنكليزية، والعربية، وتُصدِر الحكومة صحيفةً رسمية أسبوعية باللغة الإنجليزية، وافتتحت مؤخَّراً أول مدرسة دولية بالمدينة، وتبحث تدريس اللغة العربية في المدارس العامة، نظراً للعدد الكبير من التُجَّار القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وتستضيف الحكومة كذلك لقاءً سنوياً مع أعضاء من الجاليات الأجنبية القوية الموجودة والبالغ عددها 13 ألفاً؛ وخلال لقاءٍ يُعقَد في فبراير/شباط ويستمر على مدار 3 ساعات، يناقش 13 مسؤولاً المشكلات مع المُقيمين من بلدانٍ مثل تركيا، وعُمان، ومصر، وماليزيا، وكوريا الجنوبية، والسودان.

ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الاجتماع المشترك غير المعتاد في أنحاء الصين المختلفة فحسب؛ إذ يتمتع مجتمع ييوو بشكلٍ عام بحكمٍ ذاتي أوسع. فقد خلُص آدم بودومو، أستاذ الدراسات الإفريقية بجامعة فيينا، في دراسته التي نشرها الموقع الأكاديمي الإفريقي "Pambazuka"، إلى أنَّ سُكَّان ييوو قد مُنِحوا "حرية عبادة غير مُعتادة"؛ إذ يجتذب مسجد المدينة الكبير الحديث الآلاف من أجل تأدية صلاة الجمعة. وتُنظِّم حكومة ييوو أيضاً احتفالياتٍ بالمناسبات الدينية، مثل أعياد المسلمين والديوالي (أحد أعياد الهندوس والسيخ).

ويقول شيونغ تاو، نائب عمدة حكومة بلدية ييوو: "حكومة المدينة ملتزمة بتوفير بيئةٍ أفضل للجالية الأجنبية كي تعيش فيها، وتعمل، وتمارس أعمالها. لطالما كانت ييوو مكاناً للتجربة".

ويضيف: "وبدأت التنمية الحقيقية بعد إطلاق عملية الإصلاح والانفتاح في الثمانينات. فبينما كان الناس لا يزالون خائفين، وينتظرون الزعماء ليخبروهم بما يتعيَّن عليهم فعله، لم نجلس ولم ننتظر. لقد حاولنا أن نجد طريقةً لنجعل أنفسنا أكثر ثراءً".

تيسير البيروقراطية

ويقول شيونغ إنَّهم يحاولون تيسير البيروقراطية ضمن الحدود التي تتيحها السلطات المحلية، فيصدرون تصاريح إقامة لمدة عامين، وهي ضعف المُدة المعمول بها في البلاد، ويضعون مكتب الضريبة والتأشيرة داخل السوق، ويُوفِّرون إمكانية التسجيل عبر الإنترنت، ويُقدِّمون بطاقات هُوية للأجانب.

إلّا أنَّ الترحيب الحار ليس هو الحال دائماً في الصين. فعلى النقيض من ييوو، أوضحت التقارير الإعلامية والأكاديمية انحيازاً مسبقاً ومواقف عدائية قوية تجاه الجالية الإفريقية في مدينة غوانزو، لا سيَّما من جانب الشرطة. وأطلق السكان المحلِّيون على المدينة اسم شياوبيلو "مدينة الشوكولاتة"، وأبرزَ أحد الأفلام التي عُرِضت على التليفزيون الصيني حول الاندماج في غوانزو أحدَ السكان المحلِّيين يُخبر المُحاوِر بأنَّ الأفارقة "رائحتهم سيئة".

وقال شيونغ: "إنَّنا محظوظون هنا مقارنةً بأماكن مثل غوانزو. في ييوو، تتكوَّن الجالية الأجنبية في معظمها من رجال الأعمال، وهو ما يعني أنَّهم بشكلٍ عام أفضل تعليماً ولديهم عملٌ بالفعل. ولطالما كانت ييوو مدينةً ودية ومُتقبِّلة وتستوعب الآخرين؛ لأنَّنا مدينةٌ تجارية".

ومع ذلك، لا يُظهِر الجميع في المدينة النهج نفسه المُنفتِح للحكومة؛ إذ يشكو العديد من التُجَّار الأفارقة، الذين رفضوا الكشف عن هُوياتهم، من توتُّرٍ عرقي متنامٍ في ييوو، لا سيَّما تجاه المسلمين. ويقول أحدهم: "حينما نقوم بالتجارة في الصين، يحاولون خداعنا كل مرة".

وحرصاً من الحكومة على إبقاء العلاقات التجارية سلسة قدر الإمكان، منحت ما يقارب نصف المقاعد بلجنة الوساطة التجارية الخاصة بالسوق، والمكونة من 50 عضواً، للأجانب. ويساعد هذا في تسوية النزاعات التي تنشأ بكفاءة؛ لأنَّه يحقق الانسجام والتواصل بين اللغات والثقافات المختلفة.

وقال المخرج دانيال ويلان، الذي قضى شهوراً عديدة يُصوِّر الفيلم الوثائقي "Bulkland" في ييوو: "تعتمد المدينة بأكملها على الهجرة، سواء كانت الهجرة الداخلية، أو التجار القادمين من البلدان الأخرى. وفي حين وجَّهت الحكومة المحلية نظرها تجاه العالم الخارجي وإحضار الأجانب إلى المدينة، فإنَّ مواقف العاملين بالسوق مختلفة قليلاً. فكما هو واضح، ما كان السوق ليوجد لولا أولئك الرجال القادمون من مختلف أنحاء العالم، لكنَّ كلا الطرفين (المحليين والأجانب) يشعران بالارتياب تماماً بعضهما تجاه بعض".

وتسبَّب وضع الاقتصاد العالمي في زيادة حدة التوتُّرات حسبما جاء في تعليق عمَّار محمد كمال عيسى عاشور، وهو رجل أعمال مصري طموح وبشوش؛ وهو من نوع الأجانب الذي ترغب فيهم حكومة ييوو، فهو يتحدَّث اللغة الصينية بطلاقة، وحاصل على شهادةٍ في الأعمال التجارية الصينية، بالإضافة إلى درجة الماجستير في إدارة الأعمال. لكن ورغم وجوده في ييوو منذ 8 أعوام، فإنه لا يزال قلِقاً بشأن الاحتمالات المستقبلية بعيدة المدى. ويقول عاشور: "لدينا مشكلات اقتصادية بمصر في هذه الفترة. وتشهد البلدان التي نقوم بمعظم التجارة معها كاليمن، وليبيا، والعراق، وسوريا، هي الأخري مشكلاتٍ مختلفة، والتجارة في حالة تراجع. فمقارنةً بالعام الماضي، 2016، تراجعت التجارة على الأغلب بمقدار النصف".

ويضيف: "ولذا، أفكر الآن بما أريد أن أفعله بعد ذلك. وقد يكون من الصعب، لكونك أجنبياً، أن تضع خطةً طويلة المدى في الصين".

ويدفع الاقتصاد المُتغيِّر، والتركيز المتراجع للصين على الصادرات، والتوتُّرات العرقية في ييوو الكثير من التُّجار الأجانب إلى التشكيك في الخطط طويلة الأمد لأعمالهم بالصين، وإلى حديث الكثيرين منهم عن الرحيل.

نجح عاشور في ييوو، ووفَّر التمويل اللازم لتعليم أشقائه الثلاثة الأصغر سناً بمصر. لكنَّ ذلك لم يكن سهلاً؛ إذ يقول: "حينما نقوم بالتجارة هنا، قد يصبح ذلك أمراً غاية في الصعوبة. أرغب في أن أُدير تجارةً جيدة وعالية المستوى، لكنّي أشعر بالتعب بصورةٍ متزايدة".

واندلعت التوتُّرات عام 2012 بعد اختطاف تُجَّارٍ هنود على خلفية نزاعٍ تجاري، حتى إنَّ السفارة الهندية ناشدت التجَّار ورجال الأعمال الهنود في تلك الفترة بـ"عدم ممارسة التجارة مع ييوو".

الأجانب أكثر من السكان الأصليين

ولا يواجه المسؤولون تحدِّي الاندماج بين السُكَّان المحليين والأجانب فحسب؛ إذ يبدو عدد السكان المحليين البالغ 771 ألفاً ضئيلاً للغاية مقارنةً بالسكان غير المحلِّيين البالغ عددهم 1.25 مليون شخص، والذين هم في معظمهم من العُمَّال الصينيين الأكثر فقراً الذين يتجمَّعون في الشوارع خارج مراكز العمل وهم مفعمون بالأمل. وجذب تدفُّق التُجَّار العرب كذلك المسلمين الصينيين بحثاً عن فرص، بما في ذلك مسلمو الهوي والإيغور، الذين يتحدَّثون كلاً من اللغتين المندرينية والعربية.

ويختلف هؤلاء العمال المهاجرون اختلافاً شديداً عن التُجَّار الأكثر ثراءً القادمين من الخارج وأيضاً السكان الأصليين، ويتمثَّل ذلك الاختلاف في انخفاض مستوى التعليم لدى هؤلاء العمال. ونحو أقل من 5% من إجمالي سكان ييوو حاصلون على درجةٍ جامعية.

ومن أجل الحفاظ على اقتصاد ييوو، تحتاج الحكومة المحلية إلى إبقاء المجموعات الثلاث جميعها؛ العُمَّال، والباعة، والمُشترين. لكن مع إعادة توجيه الاقتصاد الصيني بعيداً عن نموذج الاقتصاد الذي يقوده التصدير، يجب على ييوو هي الأخرى أن تعيد تعريف نفسها. وتحاول الحكومة تحويل التركيز من الصادرات إلى الواردات، وفتح سوقٍ جديدة للمُنتجات المستوردة، وتوفير خدمة تساعد التُجَّار على إنشاء مواقع إلكترونية من أجل التنافس على الإنترنت، وبناء بيئة ابتكار يأملون أنَّها ستُشجِّع على نمو المزيد من الشركات الكبرى والناشئة.

ويتمثَّل أحد الأجزاء الرئيسية بعملية تحويل تركيز الاقتصاد الصيني في قطار الشحن الجديد الذي تستغرق رحلته 12 يوماً إلى لندن، وهو القطار الذي وصلت أولى رحلاته إلى لندن في يناير/كانون الثاني الماضي. كان القطار يحمل 34 حاوية من بضائع ييوو، تضم ملابس، وحقائب، وحقائب سفر، وسلعاً منزلية صغيرة، ووصل إلى لندن بعدما كان قد أفرغ 10 حاويات بالفعل في مدينة ديوسبورغ بألمانيا. وتقول الشركة المُشغِّلة لهذه الخدمة، شركة "Yiwu Timex Industrial Investments"، إنَّ تكلفة الشحن بالقطار تُمثِّل نصف تكلفة الشحن الجوي، وأسرع بأسبوعين من الشحن عبر البحر.

وبعد مروره عبر كلٍ من كازاخستان، وروسيا، وبيلاروسيا، وبولندا، وألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وصولاً إلى بريطانيا، أصبح خط ييوو-لندن هو الخط الـ15 الذي يربط مباشرةً بين أوروبا والصين، وتمتلك مدينة ييوو نفسها بالفعل خطوط قطارات شحن مباشرة مع مدريد، وريغا، بالإضافة إلى إيران، وأفغانستان، وكازاخستان. ويُمثِّل القطار كذلك جزءاً من سياسة "حزام واحد، طريق واحد" التي ينفذها الرئيس الصيني شي جين بينغ، والتي تُمثِّل محاولة من جانب بكين لإحياء طرق تجارة طريق الحرير القديم، والدخول في عصرٍ جديد من الفرص التجارية.

وينفي شيونغ المزاعم التي تقول بأنَّ الجالية الأجنبية في ييوو آخذة في التراجع؛ ويقول إنَّ هناك زيادة نسبتها 10% في عدد الزوار الأجانب العام الماضي، وزيادة نسبتها 6% في عدد تصاريح الإقامة الصادرة. لكن بعيداً عن الأنظار، يتحدَّث الكثير من أصحاب الأعمال عن الرحيل، والسبب الأساسي في ذلك هو تراجع التجارة، يليه التوتُّرات التي تنشأ لسببٍ أو لآخر.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

علامات:
تحميل المزيد