نحو نصف مليون قتيل، وأكثر من 10.9 مليون شخص أُجبِروا على الفرار من منازلهم، وانتهى المطاف بالكثيرين منهم في أيدي المُهرِّبين، أو في قبورٍ في قاع البحر المتوسط.
مدنٌ حاصرتها قوات النظام السوري وحلفاؤه وجوَّعتها حتى الاستسلام، وعشرات الآلاف اختفوا في سجون النظام، والنمو الهائل للتطرف الذي عكف على ابتلاع ما تبقى من الحياة والبهجة في سوريا، بحسب تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية.
وجيلٌ بأكمله من الأطفال أصبحوا لا يجفلون عند حدوث الانفجارات أو سقوط قذائف المدفعية في الأفق.
هكذا هو حال الثورة السورية بعد 6 سنواتٍ من آمال الربيع العربي.
ما كان بإمكان أيٍّ ممن خرجوا إلى شوارع دمشق وحلب في "يوم الغضب"، 15 مارس/آذار 2011، مُطالبين بإطلاق سراح 15 من مُراهقي درعا الذين اعتُقِلوا لطلائهم الجدران برسومٍ جدارية مناهضة لنظام الأسد، أن يتوقَّع حجم الحرب المُقبِلة.
ردَّد المتظاهرون شعار "إجاك الدور يا دكتور (بشار الأسد)"، مُستمدِّين شجاعتهم من سقوط حسني مبارك في مصر، وزين العابدين بن علي في تونس.
لم تردعهم الاعتقالات والضرب. وبعد 3 أيام من الاحتجاجات الاستثنائية النادرة ضد السلطة، لم تعُد الحكومة تحتمل المزيد. وفي 18 مارس/آذار، قُتِل 4 مُحتجّين في درعا، تقول معظم التقارير إنَّهم كانوا سلميين، بالرصاص بواسطة قوات الأمن التي فتحت النار على حشدٍ من الناس.
وفَّرت حالات القتل هذه الحافزَ لاندلاع الثورة، التي تحوَّلت إلى صراعٍ يختلف عن أي حربٍ حديثة أخرى.
ولا تزال تداعياتها الكاملة غير مفهومة إلى الآن.
وفي الذكرى السادسة للثورة، تُظهِر سوريا الآن إشاراتٍ خطيرة على الانحدار إلى حالةٍ مُترسِّخةٍ من الحرب، مثل تلك التي تعاني منها العراق وأفغانستان، حربٌ خاضعة لأهواء أمراء الحرب المحليين والقوى الوكيلة.
وفي الدوائر الدبلوماسية، لم تعد النداءات الحادة برحيل الأسد صاخبةً للغاية بعد الآن.
ورغم إقامة الجولة تلو الجولة من محادثات السلام الفاشلة، تُصر الأمم المتحدة على أنَّه لا بد من التوافق على تسويةٍ دبلوماسيةٍ للأزمة، حتى بعدما وضع التدخُّل الروسي والإيراني في أرض المعركة الانتصار العسكري في متناول نظام الأسد.
ويعني سقوط حلب نهاية العام الماضي، 2016، وانتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنَّ عام 2017 سيكون بمثابة نقطة تحوُّل بالنسبة للمعارضة السورية.
ويتحرَّك معظم اللاعبين الغربيين في الحرب السورية الآن على أساس الإدراك بأنَّ أفضل نتيجة يمكن أن يأمل بها مقاتلو المعارضة هي انتخاباتٌ حرة يوافق فيها الحاكم المُحاصَر بشار الأسد على التنحّي.
وقال تيم إيتون، الباحث الزميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمعهد تشاتام هاوس: "من غير الواضح إلى أي مدى سيكون الغرب على استعداد لمواصلة تقديم الدعم العسكري للمعارضة، لا سيَّما مع تركيز ترامب الشديد على هزيمة داعش".
وأضاف: "بدون زيادة كبيرة في الدعم، وهو الأمر غير المتوقع حدوثه، ستكون المعارضة في وضعٍ لا يمكنها الانتصار فيه".
وأردف: "ومع ذلك، لا يعني هذا أنَّهم لن يواصلوا القتال، ولا أنَّه لن يكون هناك ما يُقاتِلون من أجله. لكن بعد مرور 6 سنوات، قد تُضطر المعارضة إلى التخلي عن بعض مطالبها".
وكان معظم أولئك المُنخرِطين في حركة الاحتجاج السلمي الأصلية أو المقاومة المسلحة لنظام الأسد ممن تحدَّثت معهم صحيفة "الإندبندنت"، سواءٌ ما زالوا داخل سوريا أو خارجها، مُتردِّدين في البداية لمشاركة أفكارهم حول مستقبل البلاد.
وقال بعضهم إنَّهم ليس بإمكانهم الآن استخدام الكلمات للتعبير عمَّا تعنيه الثورة لهم.
وقال أحد النشطاء المقمين في إسطنبول، الذي طلب عدم الكشف عن هُويته: "يدور برأسي الكثير، ولا أستطيع البوح سوى بالقليل. كنتُ مؤيداً للحرية عام 2011، وأنا مؤيدٌ لها الآن. ولكن كم يجب أن يموت من السوريين أكثر من ذلك؟ كيف لي أن أُقدِّر أمراً كهذا؟ هذا مستحيل".
ويثقل الشعور بالذنب كاهل أولئك الذين كانوا محظوظين كفايةً ليفرّوا من الصراع.
ومنهم عامر دوكو، الذي نجح في الفرار من سوريا إلى الأردن عام 2013، بعد إطلاق سراحه من أحد سجون النظام سيئة السمعة الخاصة بالمعارضين.
ويرغب عامر، الذي يقيم الآن مع عائلته الشابة في العاصمة واشنطن، بالأساس في العودة إلى سوريا بعدما أنهى درجة الماجستير الخاصة به في جامعة جورج تاون، لكنَّ آماله بالعودة إلى الوطن انتهت حينما أدرك أنَّ الحرب لا تزال بعيدة عن نهايتها.
ولا يشعر عامر، كما يقول، سوى بالمرارة حيال الدور الذي لعبه دون قصدٍ منه في تفكيك سوريا.
وقال: "كانت الانتفاضة السلمية تستحق ذلك، لا الثورة المُسلَّحة. لقد أدَّت عسكرة ثورتنا إلى تدميرها لنفسها، وإلى أسوأ كارثة إنسانية في عصرنا. لا شيء يستحق ذلك الثمن".
ويرى آخرون، لا سيَّما أولئك الذين لا يزالون داخل سوريا، أنَّه لا بديل عن المقاومة الآن.
فقال عبد الكافي الحمدو، مُدرِّس اللغة الإنكليزية الذي تحوَّل إلى ناشطٍ إعلامي، وعاش خلال حصار حلب الشرقية مع زوجته وطفلته الصغيرة: "كُنَّا نعلم أنَّ طريق الحرية لن يكون مُزيَّناً بالورود".
وفي ظل عدم وجود كهرباء لإعداد الطعام، أو وجود طعام للأطفال في الأسواق، اضطر عبد الكافي في كثيرٍ من الأحيان إلى هرس الأرز المبتل على ضوء المصباح حتى يمنح طفلته شيئاً لتأكله في ظل توغُّل الطائرات الحربية في سماء المنطقة وأصواتها الهادرة.
ولا تزال زوجته، التي تعيش الآن في إدلب المجاورة التي تسيطر عليها المعارضة، تخشى النوم في المساء، خوفاً من قصف القوات السورية وحليفتها الروسية. ومع ذلك، يقول عبد الكافي إنَّه في حال كان بإمكانه أن يعود بالزمن، وأن يُخبِر نفسه بشأن الأهوال القادمة، إنَّه كان لا يزال سيقاتل من "أجل الحرية من الديكتاتور".
وأضاف: "إذا كان هناك شيء أندم عليه، فهو أنَّي لم أقم بما يكفي. كان علينا أن نخبر العالم بمعاناتنا قبل 2011. كان علينا أن نخوض معركتنا في وقتٍ أسبق".
وأردف: "بإمكاني اليوم أن أكون فخوراً بمعرفة أنَّي لم أخن مبادئي، وأصدقائي، وجميع السوريين المُضطهدين. بإمكاننا فقط المضي قُدُماً".
وفي حين أنَّ رغبة عبد الكافي في مستقبلٍ سلمي أقوى من أي وقتٍ مضي، فإنَّه من المستبعد أن تكون هناك نهاية سهلة لسفك الدماء في جبهات سوريا العديدة.
ولم يؤدِ الاقتتال المتزايد بين مجموعات المعارضة سوى إلى تقوية العناصر الجهادية المعارضة للنظام، ومن المستبعد أكثر من أي وقتٍ مضى أن يقدم النظام تنازلاتٍ لمعارضةٍ ضعيفة كتلك.
وقالت نورا اليافي، السيدة الدمشقية التي عملت مع النساء اللاجئات في بيروت منذ 2013: "أفتقدُ الماضي. جميعنا نفتقده".
وأضافت: "لن يُحقِّق أحدهم الآن ما يرى أنَّه انتصارٌ على الإطلاق. فقد خسرنا جميعاً بلدنا إلى الأبد، مهما كان الجانب الذي تنتمي إليه".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Independent البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.