على إيقاع بكاء الشعوب المضطهدة وعويلها وصراخها الذي لا يجد حتى صدى يرتد إليه؛ ليواسيه جراء ما يقع عليها من عمليات استثمار لتلك الآلام من قِبل مَن أفنى السنين والأموال، وأنشأ مراكز البحوث حتى يبقى متصدراً العالم، وأبقانا نجر الهزائم تلو الهزائم، نتيجة إما انعدام الخطط الناجحة، أو انعدام المخطط الناجح، فاستغلت تلك القوى هذا الفراغ الذي أنتج حالة من الركود الثقافي والاقتصادي، التي كانت في أحيان كثيرة سبباً فيها.
ولعل أبرز ما جرَّ علينا الويلات هي خططٌ أستطيع القول إنها "وهمية دون قصد"، تعتمد على ما أصفه بالأسلوب العابر للرقعة الجغرافية في النهضة والانتشار في رقعة لا حدود لها، رغم أن قلاعها بالأساس مهددة من الداخل، متعللة بأن ذلك هو الأجدى لتحقيق الهدف، والأقرب إلى نفوس الشعوب، بناءً على معطيات غير دقيقة، ومقاييس لم تنظر إلى موازين القوى بنظرة متجردة عن الدوافع المعنوية غير المتناسبة مع حجم المشكلة ولا طبيعتها، ولا حتى الفوارق الزمنية بين مَن أخذ بها في زمن معين ونجح، وبين الوقت الحاضر، فولد ذلك فراغاً اُستغل أبشع الاستغلال ممن يود الانقضاض على البشر والحجر.
ومع كل جوانب القصور هذه، فإن أحد أهم أسباب فشل تلك الخطط هو محاربتها حرباً شعواء؛ إذ إن مستثمري الهدم يرعبهم أي شيء يوقظ من السبات ويوقد الجذوة بعد الجمود، حتى لو كان تأثيره على مجموعة تعد بعدد أصابع اليد الواحدة، وهي نتيجة منطقية جداً، فمن ذلك التاجر الذي يريد لغريمه أن يقوى وتنتشر بضاعته في السوق؟ فكيف إذا كان الهدف شاملاً لا يستثني رقعة في الأرض؟ وبناءً على هذا المخرج، فإن هنالك أملين للبدء بخطة لنهضة حضارية شاملة، أولهما أن الاقتصار على رقعة معينة سيسهل العمل على أرض الواقع، وسيقلل التهديدات المحتملة، وثانيهما أن الفشل الذي أصاب الخطط السابقة بكافة مسمياتها أفسح المجال اليوم للانطلاق بمشاريع ذات محتوى ووسائل تطبيق جديدة.
إن الخطة الحضارية الواجب إعدادها للقضاء على حالة الركود التي تصيب كافة مفاصل المجتمع الإنساني عند الشعوب المضطهدة يجب أن توضع ضمن إطار جديد يناسب التطور العلمي والثقافي الذي وصلت إليه بلدان العالم المتقدمة في مجال التعليم أولاً وتليها باقي المجالات، من خلال البدء بإنشاء أجيال على أسس حضارية صلبة بخليط من القيم الحضارية والعلمية والجمالية،
ودق أوتادها في قناعات عقلية وروحية، وجعلها محركاً دائماً للفرد في كل خطواته، على أن يتجنب هذا الإنشاء الجديد كافة الأساليب التي حاول السابقون استنهاض الأمم بها وفشلت مهما كانت الخلفيات التي خرجت منها، فالبناء السليم هدف سامٍ لا يصده العناد والتزمت برأي واحد، بل إن أية فكرة أياً كان مصدرها من شأنها وضع لبنة في جدار هذا البناء، فهي لبنة مدعاة للاهتمام، كما أنه من غير المنطقي ولا العقلاني ولا الإنساني أن نعارض تطبيق فكرة تسهم في البناء الإنساني للمجتمعات،
ولو أدى تطبيقها إلى الخروج عن بعض الموروثات في سبيل تحقيق غاية أسمى وهدف أنبل يتيح في النهاية الوصول إلى ما تريد أن تصل إليه تلك الموروثات من غايات، والتي لا نشك لوهلة أن فهمها السليم هو أساس لكل نهضة إذا ما توافرت لها البيئة المناسبة، من حرية وعدالة واستقرار سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي، فما نهضة الغرب العلمية إلا من اختراعات علماء مسلمين توافرت لهم البئية الصالحة للإبداع والتفكير، وما نهضة اليابان الإنسانية إلا تطبيق لقيم الإسلام المثلى التي لم تطبق بالطريقة الصحيحة أو لم يُختر لها الوقت المناسب، فحل الانحدار مع تربص غرماء الاستثمار الهدام، الأمر الذي لا بد من الوقوف عنده ومراجعة الأخطاء الفهمية، وما ينبني عليها من تطبيقات كارثية أدت إلى عزوف الملايين عن اتخاذ الموروث السليم حلاً سليماً ووحيداً لكل المشكلات، بل ووصل الأمر عند بعضهم إلى التخلي عن قناعته بأي شي يربطه بموروثاته،
والأصل في ذلك أن كثيرين ممن حملوا هذا الإرث ما زالوا لا يؤمنون بأن النهضة الحضارية والخطط اللازمة لتنفيذها تستلزم في أحيان كثيرة الخروج تماماً حتى عن أصل الموروث، فكيف لخطة أو مشروع أو فكر يقوم منذ انطلاقته الأولى على لون معين من الناس يعيشون في بقعة واحدة أن يستمر دون أن يكون هنالك صِدام ولو كان فكرياً مع الألوان الأخرى في الحيز المكاني لتلك الخطة أو المشروع، هذا إن لم يؤدِّ إلى صدام وجودي، ناهيك عن ضرورة وأد الأفكار القديمة التي أثبتت فشلها ونتائجها الكارثية وهي تلك الأفكار التي تعتمد وتعمل على العبور نحو العالمية،
وهي في الوقت ذاته لم تُحصّن قلعتها الداخلية حتى أوصلها ذلك التمسك إلى حتفها، ولعل ذلك مؤشر ليأخذ المجددون مكانهم، فميدان التخطيط لإدارة المجتمعات والاستثمار في بنائها أصبح اليوم أكثر تقبلاً لتلك الخطط الجامعة بعد أن أثبتت الخطط الضيقة الهدف فشلها؛ إذ إن اعتماد مبدأ بناء المجتمع ضمن رقعة جغرافية معينة بالوسائل التي تتفق عليها مكونات ذلك المجتمع (حرية، اقتصاد حر، تعليم، صحة، تنمية مستدامة، فنون) كفيلة بإيصال تلك الرقعة إلى مصافي الشعوب الراضية، وبالتالي سينعكس ذلك الرضا حباً بالفكرة التي جاء بها المخطط والمنفذ، وستترسخ القناعة بأن ذلك هو الطريق الأنسب للوصول إلى حياة هانئة، وإن الوصول إلى هذه المرحلة لهو أساس الإحسان،
فتجد الفرد بعد أن يرى بعين اليقين النتائج الباهرة والتغيير العام يعمل لبناء نفسه حباً بتغييرها وإصلاحها ونقل تجربته الناجحة إلى الآخرين بعد أن يدرك وتستقر في ذاته قناعة راسخة بأن مهمته في الحياة هي ذات المهمة التي جاء به أصحاب الخطط النهضوية، وبذلك نجد أن التزام هذا التوجه يؤدي إلى ثلاث نتائج في حال إتقان الخطة الموضوعة وتحقيق النتائج المرجوة: النتيجة الأولى أن نجاح الخطط سترجع آثاره الإيجابية على أصل الفكرة فينعكس على شكل قوة أشبه بالقوة العقائدية لدى المجتمع، وهو ما سيدفع ذلك المجتمع إلى الدفاع دفاعاً مستميتاً عنها في حال تعرضها إلى مخاطر خارجية، والثانية أن النجاح على الصعيد العام لا بد أن يترك آثاراً على صعيد الأفراد، وهو ما سيعمل على نقل أصل الفكرة من النطاق المجتمعي الواسع إلى النطاق الشخصي، ومن ثم الأسري، صعوداً إلى الدوائر الأوسع، والثالثة أن النجاح الذي يحققه أي مشروع يكون مدعاةً للتطبيق في رقع جغرافية أخرى، وبذلك يمكن توسيع نطاق الهدف إلى مديات واسعة من خلال تثبيت النجاح الأولي في رقعة معينة، فحركة الحياة السليمة المنتجة في تلك الرقعة تنتج بلا أدنى شك ضوءاً ينبعث إلى الأوساط المجاورة فتترك أثراً معنوياً لديها، وربما أثراً على أسلوب الحياة عند مجموعاتٍ أو أفراد في تلك الأوساط، وهو ما يعني عبور أصل الفكرة النطاقَ الجغرافي المخصص لها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.