هل حقاً نحن مسؤولون عن كل خياراتنا؟ بالقطع لا! الكثير من العوامل تتنافس للتحكم في سلوكياتنا. ولتوضيح الأمر، سوف نقف على درجة من درجات السلم البيولوجي، ولتكن البداية مشعَّة إلى حد ما.
هناك نوع من الجمبري يسمى Gammarus Lacustris، يعيش على أعماق معينة تحت سطح المياه. ولكن فجأة، وبلا مبررات، يفضل السباحة إلى السطح والبحث عن ضوء الشمس والتعلق بفروع الأشجار والنباتات الطافية، ما يجعله وجبة سهلة من الفوسفور المشعّ لنوع معين من أنواع البط يسمى Mallard.
ولكن، ما الذي يحمل هذا الجمبري على ذلك؟!
الإجابة: طفيل يسمى Polymorphus paradoxus، أحد الطفيليات المُعْدية التي تصيب الجمبري. يقوم هذا الطفيل بعد أن يستقر في جسد الجمبري بالتأثير على سلوكه وجعله يميل إلى تناول طعامه على السطح، ومن ثم يصبح فريسة ممكنة للبط؟
ولكن، لماذا يسهل مهمة البط في الحصول على الجمبري؟
الإجابة: لأن البط هو العائل النهائي لهذا الطفيل. بالتهام البط للجمبري، ينتقل الطفيل من جسد الجمبري المأكول إلى جسد البط العائل النهائي؛ ليكمل دورة حياته.
يظن الجمبري الضحية أنه يبحث عن الشمس بإرادته، بينما يظن رفقاؤه أنه ذهب إلى السطح ليلقى قدره، ولكنه في الحقيقة ذهب مسلوب الإرادة، ليصبح مجرد مركبة تمتطيها تلك الطفيليات للوصول إلى العائل النهائي.
على النقيض من ذلك، يقوم الطفيل المسمى P marilis بتوجيه ضحيته من الجمبري للسباحة في العمق، فيسهل مهمة نوع آخر من البط -وهو البط الغطاس- في الحصول على وجبته المحملة بالطفيل؛ ليكمل دورة حياته.
من الأمثلة الغريبة التي يقوم فيها الطفيل المعدي بإدارة سلوم ضحاياه، هي ليرقات الـNematomorph، لكي تستأنف دورة حياتها لا بد لها أن تعود للمياه مرة أخرى، ولكن كيف ذلك وهي داخل جسد نحلة تطير فوق المياه! رصد الكثير من علماء البيولوجي كيف تسقط تلك النحلة المصابة بهذا الطفيل فجأة في المياه من على ارتفاع 6 أقدام لتغرق في المياه وكأنها تنتحر لينفجر جسدها بعد ذلك ويخرج منه الطور البالغ للطفيل؛ ليكمل دورة حياته!
أحد أهم الألغاز المحيرة في مرحلة الطفولة بالنسبة لي، هو: لماذا يصاب الفأر بالشلل عندما يشاهد القطة؟! وما الداعي إلى أن تأكل القطط الفئران أصلاً وتطاردها دائماً (حتى صارت أشهر أيقونات الرسوم المتحركة هي توم وجيري) مع أننا نُطعم القطط من طعامنا في أغلب الأوقات؟!
ربما هذا جزء من الحقيقة، ولكن ليس الحقيقة كاملة، فكلاهما (القط والفأر) مدفوع دفعاً لهذا! كيف ذلك؟ ومَن هذا الطاغي الذي لديه القدرة على التحكم في الجهاز العصبي لكل منهما ليجعل الفأر يتصلب في مكانه ويدفع القطة إلى افتراسه في الوقت الذي لا تشعر فيه بالجوع؟
إنه هذا الطفيل الضعيف الهزيل اللاشيء المسمى (التوكسوبلازما جُندي) Toxoplasma gondii، يُعرف شعبياً بـ"داء القطط" والذي له قصة ظريفة، حيث إن العائل النهائي له هو القطط والعائل الوسيط له هو الفئران، ولكي ينتقل من العائل الوسيط (الفئران) إلى العائل النهائي يقوم بعدوى مخ الفأر ثم يقوم بتعديل سلوك الفأر؛ ليجعله ينجذب إلى بول القطط في الوقت الذي يغري فيه القطةه بمهاجمته، ومن ثم تقوم بافتراسه لينتقل الطفيل منه إليها ويقوم باستكمال دورة حياته!
الفئران المصابة بالديدان الشريطية المسماة Spirometra mansanoides، تنمو بصورة أسرع من غير المصابة، وتصل لحجم أكبر! لماذا؟ لأن تلك الدودة الذكية تفرز مادة تشبه هرمون النمو. ولكن لماذا تفعل ذلك؟ بالقطع، لمصلحتها.
الأغرب من ذلك، يرقات الخنافس المصابة بطفيل نوسيما، تستمر في النمو دون أن تصل إلى البلوغ حتى يصبح حجم اليرقة المصابة ضعف غير المصابة.
بعض الآليات التي تؤثر بها الطفيليات على ضحاياها معروفة، والكثير من الآليات الأخرى ما زالت مجهولة.
50 في المائة من الدوبامين و90 في المائة من السيروتونين في الجسم، تنتجه البكتيريا التي تستوطن الجهاز الهضمي في الإنسان. لمن لا يعرف الدوبامين والسيروتونين؛ هما نواقل عصبية مسؤولة عن تحديد مستوى السعادة والاكتئاب لدينا.
في أحد الأبحاث، لوحظ أن الفئران التي تم وضعها في بيئة خالية من البكتيريا المعوية تعاني أعراضاً تشبه مرض التوحد، وعندما تم نقل البكتيريا إليها تحسنت حالتها؛ بل إن تلك البكتيريا ربما تحدد نوع الطعام الذي نفضله، فهي ترسل إشارات عصبية كثيفة للمخ من خلال (vagus nerve) تولد شعوراً بالسعادة عند تناول هذا الطعام.
البعض ذهب أكثر من هذا ليجعل تلك البكتيريا مسؤولة عما يسمى (pro – social behavior) والذي يجعلنا أكثر تسامحاً، كما رصدت أبحاث أخرى أن الأشخاص الذين تناولوا زبادي يحتوي على بروبيوتك أصبحوا أقل توتراً وأكثر سعادة من آخرين تناولوا لبناً من دون بكتيريا. ليس هذا فحسب؛ بل إن الفئران التي تم إطعامها نوعاً معيناً من البكتيريا كانت أقل توتراً وأكثر قدرة على التعلم والتذكر.
تلك نافذة ضيقة، شاهدنا من خلالها كيف تؤثر أصغر الكائنات الحية في سلوك الكائنات الأخرى وتغير سلوكياتها لمصلحتها الذاتية، وكيف يمكنها أن تتحكم في جهازها العصبي والعضلي لتقوم بفعل ما يُملى عليها في الوقت الذي تظن فيه أن لديها إرادةً وحريةَ تصرفٍ كاملة، فما بالنا بالكائنات الأكبر حجماً والأكثر ذكاءً! وما بالنا بتأثير البشر بعضهم على بعض!
إن حريتنا منقوصة وإرادتنا ليست حرة، ولكن معظمنا لا يدرك ذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.