كثير من الأمور المتحققة اليوم على أرض الواقع كانت في فترة ما أحلاماً بعيدة المنال، وخرافات لا يمكن للعقل السليم تقبلها أو التسليم بها، لكن تسريبها للناس عبر زرعها في عقولهم الباطنة أولاً عن طريق وصفها بأنها حدثت فعلاً، رغم عدم وجودها أصلاً على أرض الواقع، وعدم رؤيتها أو لمسها، جعلها فيما بعد أمراً متحققاً، وفتح لها طريقاً للقبول والحدوث.
ففكرة أن هناك مجموعة من البشر مثلاً قادرة على التحكم في العالم وتوجيهه كما تشاء والتصرف بمقدراته حسب أهوائها، بل وإجبار مَن يخالفها على تطبيق ما تريد باختياره دون أن يعلم أنه يطبق مرادها، تبدو فكرة مجنونة غير قابلة للتصديق؛ إذ إن حدوثها بهذا الشكل ليس من قدرات البشر، بل هو أمر إلهي يحتاج إلى تدخل من يعلم الغيب وبيده مقاليد كل شيء.
إذاً كيف يمكن أن يقتنع الناس بخرافة غير موجودة، بل ويروجون لها أيضاً؟
لا بُد من تسريبها إلى عقولهم الباطنة عبر بابٍ خلفي:
أولاً، لتكن كذبة، ثم فكرة، ثم أمراً محتملاً، ثم حقيقة واقعة.
فأحلامك بالسيطرة على شخص ما إذا لم تلقَ قبولاً واستعداداً عند ذلك الشخص لتقبلها لن تحدث مهما امتلكت من قدرات بشرية، حتى إبليس نفسه الذي يتمتع بقدرة التخفي والوسوسة والحاصل على الإذن الإلهي بإغواء البشر إلى يوم القيامة، هناك حدود لقدراته، وهناك نوع من البشر لا يستطيع عليهم شيئاً كما قال تعالى: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ".
حسناً، كيف سيقتنع الناس إذاً بأننا الآلهة القادرة على كل شيء؟
أولاً لندَّعِ أننا كذلك فعلاً، وأن هذا الأمر واقع منذ زمن وهو بدهي، ثم لنستهدف فئات البشر كُلاً حسب ميوله، فنبث الكتب للمثقف، ونُدَبِّج الأفلام للمشاهد، ونُدَلِّس الوثائق للباحث، ثم لنتلقف أي حادثة تحدث في أي مكان في العالم، وندَّعِ أننا من أحدثها وخطط لها، فكتاب ككتاب (بروتوكولات حكماء صهيون) ذائع الصيت، هو واحدة من وسائل السيطرة والولوج إلى العقل من الباب الخلفي.
فهذا الكتاب -معدوم النسب- يدعي أن اليهود قادرون، بل هم المتسببون في كل ما يحدث في الكون، وكلما وقعت واقعة هنا أو هناك سارعوا إلى تجييرها لخدمة هذا الهدف، حتى صار عند الناس قاعدة لتقبل تلك الخرافات والتعامل معها، ثم تصديقها شيئاً فشيئاً حتى تصبح من المُسلّمات بعد أن كانت من الخرافات، فيغدو تطبيقها سهلاً بعد أن كان حُلماً، وبقليل من العمل تغدو واقعاً على الأرض.
(إذا قيل لك إن التتار قد هُزموا فلا تصدق)، هذه المقولة التي انتشرت انتشار النار في الهشيم زمن التتار، هي أيضاً غير معروفة النَّسَب، ولا أستبعد أن من أطلقها وروَّج لها هم التتار أنفسهم، بل أنا أميل لتبني ذلك، فهذه المقولة قد فتحت أمام التتار عواصم الدنيا من الصين إلى روسيا، وصولاً إلى حاضرة العالم الإسلامي ومقر خلافة المسلمين آنذاك (بغداد)، التي سقطت دون مقاومة تُذكر، خوفاً من بطش التتار ( الذين لا يُهزمون)، وظلت عجلة تقدمهم في البلاد تدور دون رادع، أو حتى من يفكر بالمقاومة، كيف ذلك وقد رَسخَ في الأذهان أنَّ ( التتار لا يهزمون)؛ حتى شَذَّ عن هذه القاعدة (قطز) رحمه الله، وقرر أن يُغلِق الباب الخلفي لعقله، ويتعامل مع الأحداث بالعقل الواعي الذي يأخذ بالأسباب ويوافق السُنن ويتوكل على الله، فكانت نهاية التتار وتوسعهم على يديه، ثم بدأوا بالانحسار.
كذلك في عصرنا الحديث، وبعد أن هُزِمَت الجيوش العربية مجتمعة أمام الكيان المسخ (إسرائيل) بسبب تقصيرهم، وعدم أخذهم بالأسباب، وغرقهم في مستنقع الفرقة، وتفشي الخيانات بينهم، وركضهم الحثيث نحو مصالحهم الشخصية وقضاء شهواتهم الآنية، برز مصطلح (الجيش الذي لا يُقهر)، واستمر هذا الجيش – الذي لا يُقهر- يمارس كل أصناف العربدة والتعدي والتوسُّع دونما رادع، حتى جاء (أطفال الحجارة) في فلسطين؛ ليكسروا بسواعدهم العارية وحجارتهم الغالية الصورة النمطية الأسطورية التي رسمتها له الجيوش العربية بذلها وانكسارها، وما هي إلا سنوات قلائل حتى كَبرَ (أطفال الحجارة) واشتدَّت سواعدهم، واستبدلوا حجارتهم ببنادق؛ ليثبتوا للعالم أن هذا النمر الذي أخافهم لعقود ما هو إلاّ نمرٌ من ورق، وأنَّ بيته أوهن من بيت العنكبوت.
وبعد أن كان حُلمه بالتوسع (من النيل إلى الفرات) صار أكبر همّه كيف يحافظ على بقائه ويُؤخر زمن اندثاره.
إذاً فالقناعات المفروضة ما هي إلا أوهام سُرِّبَت إلى عقولنا من الأبواب الخلفية؛ لتترَسَخ فينا فكرة، ثم تغدو مُسَلَّمة من المُسلمات لا يمكن تجاوزها، فعلياً هي فرضت عليك عبر تمريرها من الباب الخلفي للعقل، ونظرياً فأنت قد اقتنعت بها وتوصلت إلى استنتاجها بكامل حرية عقلك كما تعتقد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.