كل الطرق تؤدي إلى البحر، وكل الآمال متعلقة به. هو المارد الذي يقف شامخاً ليحجز الظلام عن النور والفقر عن الثراء والبؤساء عن السعداء أو هكذا يظنون.
الحكايات التالية مركزها البحر الذي جمعت فيه الأقدار لاجئين من بقاع شتى مع مراسل "عربي بوست" على متن سفينة الإنقاذ (أكواريوس). نعود للوراء لنعرف كيف تبدأ القصة وما مساراتها ونقفز للأمام لنعرف كيف تنتهي، ونذرع الحاضر طولاً وعرضاً لنعرف كيف تحول البحر إلى خلية نحل ينشط فيها المهربون من ناحية ومحترفو الإنقاذ من ناحية أخرى.
القصة في مجملها تدور في ثلاثة فصول كبيرة، أولها يتتبع المهاجرين في رحلتهم للوصول إلى البحر، والثاني يتابع معهم رحلتهم في البحر سعيا للشاطئ الآخر، والثالث يرصد النهايات المختلفة للرحلة على الشاطئ الأوروبي.
الفصل الأول: من هنا يبدأون [مسارات الموت في صحارى إفريقيا]
في الثانية عشرة وست وعشرين دقيقة من ظهر يوم الجمعة، الثالث عشر من يناير/كانون الثاني، كان العشرات من المهاجرين الأفارقة يُنقلون على متن قاربي إنقاذ صغيرين أطلقهما طاقم السفينة "أكواريوس" التي تبحر للبحث عن المهاجرين وإنقاذهم بالقرب من السواحل الليبية. وبمجرد أن جلس السوداني عبد الرحمن أبكر على متن القارب الذي ينقله إلى سفينة البحث والإنقاذ، اتسع وجهه لضحكة فرح، سرعان ما تحولت إلى ابتسامة ارتياح استمرت حتى وصوله إلى إيطاليا، ابتسامة لم تختفِ حتى في أثناء تذكر الرحلة القاسية منذ البداية.
قضينا 3 أسابيع على متن السفينة أكواريوس، مع المهاجرين والمنقذين، لنعرف ما الذي يدفع الآلاف من المهاجرين للسفر عبر الطريق الأكثر دموية إلى أوروبا، وكيف يصلون إلى هناك، هذا المقال يقدم رحلة بعضهم.
بلاد الجنوب.. بلادنا التي تطردنا!
قبل 19 عاماً، وفي عام 1998 وُلد عبد الرحمن أبكر، الابن الرابع من بين 10 إخوة لعائلة تعيش على الزراعة في ضواحي الخرطوم. كان العام الذي وُلد فيه مفصليّاً! قصفت الولايات المتحدة مصنع الشفاء، بينما كانت الحرب الأهلية تستعر متسببة في مقتل قرابة مليون ونصف المليون شخص حتى ذلك الوقت، وفي نزوح 3 ملايين سوداني داخل البلاد، كما أن الأوضاع شديدة السوء في الدول المجاورة أدت إلى لجوء مئات الآلاف إلى السودان هروباً من بلدانهم (إريتريا مثلاً شهدت في عام 1998 حرباً أهلية أودت بحياة 100 ألف قتيل). وبعد تدهور العلاقات مع مصر عقب محاولة اغتيال الرئيس الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا منتصف ذلك العام، وهي العملية التي اتُهم فيها نظام عمر البشير، لم يعد خروج اللاجئين من السودان عن طريق حدودها الشمالية سلساً.
عندما قابلنا أبكر لأول مرة على القارب الذي أطلقته السفينة أكواريوس لإنقاذ قاربه، كان وحده، لكنه سرعان ما التقى سودانيين آخرين جمعهم البحر، والطريق، كان أحدهم هو بحر الدين.
"الحياة صعبة في السودان"، يقول بحر الدين، الشاب البالغ من العمر 27 عاماً، مُفسّراً أسباب رغبته في الرحيل عن السودان. التقينا بحر الدين على متن أكواريوس، بعد أن قامت سفينة تابعة للبحرية الإيطالية بإحضاره برفقة 100 مهاجر آخرين تم إنقاذهم؛ كي توصلهم أكواريوس إلى إيطاليا.
على الرغم من اعتماد الاقتصاد السوداني على الزراعة بشكل رئيسي، لا يعيش المزارعون الحياة التي يريدون، فـ"أنت تزرع، ولا تستطيع أن تحصل على حقك بسبب العصابات التي تُحصّل الإتاوات من الجميع"، كما يقول بحر الدين.
ترك بحر الدين مسقط رأسه في الجُنينة بالقرب من الحدود السودانية مع تشاد، قبل 3 سنوات؛ هرباً من "الظلم" الواقع عليه وعلى السودانيين في دارفور. يوافقه أبكر، الذي لحق به بعد أكثر من عام، في سبتمبر/أيلول عام 2015، عبر مسار تهريب من السودان إلى ليبيا، استغرق أياماً، في رحلة تجاوز طولها 2000 كيلومتر انطلاقاً من أم درمان غرب الخرطوم، ووصولاً إلى إجدابيا في الشمال الليبي.
بيد أن رفاق أبكر على القارب المطاطي الذي أُنقذ لم يأتوا من السودان فقط، على الرغم من أنه كان بالنسبة للكثيرين منهم محطة هامة.
مسار الهجرة من شرق إفريقيا
يتخذ عشرات الآلاف من الأفارقة في رحلتهم إلى أوروبا، مسارات محددة مسبقاً، يمر بعضها عبر السودان من أقصى شرقه إلى غربه. يُحتمل أن يلتقي أبكر في رحلته آخرين مروا عبر السودان،جاءوا من دول شرق إفريقيا، وإريتريا والصومال وحتى إثيوبيا.
تبدأ رحلة القادمين من شرق إفريقيا قبل دخولهم إلى السودان، في إريتريا مثلاً، وهي الدولة صاحبة الرقم القياسي لعدد اللاجئين القادمين إلى إيطاليا عبر البحر في عامي 2014 و2015 بـ40 ألف مهاجر في كل منهما.
تقول تقارير المنظمات المختصة إن هناك 3 آلاف شخص على الأقل يغادرون إريتريا شهرياً بغية الوصول إلى أوروبا، يصل معظم هؤلاء بطرق متعددة إلى السودان، ومن مدينة الشواك بولاية كسلا على الحدود الشرقية للبلاد تبدأ حكاية كثير منهم.
تستضيف الشواك مخيم "الشجراب"، وهو مخيم لاجئين ضخم يضم 30 ألف مهاجر إفريقي، معظمهم من إريتريا، لكن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والتي تتابع الأوضاع في المخيم، تحدثت عن حوادث "اختطاف" أو اختفاء للاجئين في المخيم، أين يذهبون؟ تعتقد المفوضية أن بعضهم يتم اختطافه من قِبل القبائل المحلية، في حين يدفع آخرون أموالاً لمهربين نظير تهريبهم إلى مناطق أخرى داخل السودان، أو غالباً، إلى ليبيا.
للوصول إلى ليبيا، يتعاون المهربون الإريتريون مع أفراد من الجيش والشرطة السودانية، بالإضافة إلى بعض أفراد القبائل شرق السودان؛ إذ أكد تقرير أوروبي أن المهربين يتعاونون مع أفراد من قبيلتي الحداربة والرشايدة. وإذا ما كانت إدارة المسارات المتعددة للتهريب والهجرة في غرب إفريقيا تقع على عاتق منظمات وأفراد مختلفين، إلا أن الوضع ليس كذلك في إريتريا وشرق السودان؛ إذ تقوم منظمة واحدة بتهريب عشرات الآلاف من الإريتريين وتهيمن تماماً على الطريق الشرقي. وهذا ما تؤكده إيزابيلا كوبر، المتحدثة الرسمية باسم وكالة مراقبة الحدود الأوروبية (فرونتكس)، بقولها إن "هناك شبكات تهريب أكثر تنظيماً من غيرها، حتى لو كان الربح هو ما يقودهم جميعاً".
مسار الهجرة من غرب إفريقيا
غرباً، يختلف الأمر من حيث طول الطريق ووعورته والمخاطر التي يتوقع المهاجرون أن يقابلوها. إذا ما أراد مهاجر من غامبيا، مثلاً، أن يرحل، فسيكون عليه أن يخوض رحلة تمتد عبر السنغال، ومالي، والنيجر، وصولاً إلى ليبيا. أما إذا كان المهاجر قادماً من ليبيريا، فسيحتاج للمرور بغينيا أو ساحل العاج ثم النيجر، قاطعاً 3 آلاف كيلومتر على الأقل قبل الوصول إلى ليبيا، التي ينطلق منها إلى أوروبا، فيما يُعرف باسم "طريق وسط البحر المتوسط".
إذا كانت الرحلة مريرة بالنسبة للرجال، فإنها تصبح أخطر وأشد إيذاءً للسيدات والقُصّر
تغادر المئات من النساء الإفريقيات بلادهن كل يوم؛ بهدف الوصول والعمل في أوروبا. "قابلت المئات من النيجيريات خلال 3 أشهر من العمل في البحر"، تقول مارينا كوجيما، القابلة اليابانية التي تعمل مع منظمة أطباء بلا حدود على متن السفينة أكواريوس.
تهاجر النيجيريات للعمل كخادمات للمنازل في أوروبا، ولكنهم غالبًا ما يتوقفن لأشهر أو أكثر من ذلك في ليبيا، يُجبرن على العمل في تجارة الجنس، ويُجبرن على تناول عقاقير منع الحمل بانتظام أثناء وجودهم بصحبة المهربين.
من بين الشهادات التي تم توثيقها من قبل موظفي إغاثة عملوا مع مهاجرين، كانت شهادة "بليسينغ"، الفتاة التي كانت تبلغ من العمر 13 عاماً عندما تعرضت للاغتصاب في نيجيريا. بعدما وصلت إلى منزلها لم تخبر أحداً بما حدث، لكنها قررت في ذلك اليوم أن تغادر البلاد ولا تعود، وهو ما فعلته بالفعل، رحلتها إلى ليبيا كانت بعد الاستعانة بصديقتها، التي أخبرتها بأنها ستذهب عبر النيجر إلى ليبيا، ومنها إلى أوروبا وبعدما أعطت مبلغاً من المال إلى صديقتها التي تعمل مع المهاجرين، تحركت في رحلتها.
خلال الأيام التالية، سقطت فتاتان في الطريق من بين 5 فتيات كن يسافرن مع 27 رجلاً. بعدما وصلوا جميعاً إلى ليبيا، كان في انتظارها جحيم آخر
ليبيا: أرض الخوف!
عندما وصلت بليسينغ إلى صبراتة، التي تقع على الساحل غرب طرابلس، تم اختطافها مباشرة مع المجموعة، واحتُجزوا في مخزن ضخم. تصف الفتاة النيجيرية القائمين على المكان بقولها إنهم "ليبيون يعملون مع أفارقة سود، أقوياء ومسلحون، لكنهم لا يرتدون أزياء رسمية". طلب الخاطفون أموالاً لم تكن تمتلكها بليسينغ، فبيعت بعد شهر إلى منزل آخر يُطلق عليه اسم "منزل الاتصال" Connection House، لكنها لم تكن تعلم أن منزل الاتصال ذلك هو الاسم الذي يعرفه الجميع لبيت الدعارة.
في هذا المنزل، اغتُصبت الفتاة التي لم تتجاوز الرابعة عشرة مرتين، قبل أن يتم تهريبها على واحد من القوارب المطاطية المتجهة إلى أوروبا للعمل في تجارة الجنس هناك.
وعلى الرغم من أن بليسينغ لم تكن تدرك الخطر الذي يتهددها في رحلتها، فإن هناك أخريات ينطلقن من بلدانهن لهذا الغرض تحديداً، أو بعد أن يتم خداعهن منذ البداية. أخبرت فتاة نيجيرية أحد موظفي الإغاثة على السفينة أكواريوس بأنها خرجت من بلادها بهدف العمل في قطاع "الأزياء والموضة" كـ"مودل" في أوروبا، قبل أن تكتشف الحقيقة.
يعيش الأفارقة في ليبيا حياة مريرة، ولا يتميز في ذلك العرب عن غيرهم. يقول أبكر: "عندما يرون سُمرة بشرتك، يرون نقوداً تمشي على قدمين!". كان أبكر يتحدث عن الميليشيات التي تنتشر بطول الأراضي الليبية، والتي عادة ما تختطف الأفارقة بغية طلب فدىً منهم ومن عوائلهم.
لكن أبكر الذي كان أسعد حظاً من بليسينغ، لكونه ذكراً في المقام الأول، ولكونه استطاع شراء حريته بتوفير النقود المطلوبة (800 دينار ليبي تقريباً)، بعدما اختُطف بالقرب من صبراتة أيضاً أثناء توجهه لقارب الهجرة، قبل أن يعود إلى طرابلس، ليعمل شهوراً؛ كي يدفع للمهربين مقابل رحلته التي لم ينهها في المرة الأولى.
العمل في ليبيا لم يكن تجربة هيّنة لأبكر ابن السبعة عشر عاماً، والذي لم يقرر أنه يحتاج السفر سريعاً إلى أوروبا إلا بعدما شهد انتهاكات العديد من أرباب الأعمال في ليبيا للأفارقة. "كنت أعمل فواعليّاً" واصفاً مهنته كعامل بناء أو منظف منازل أو حتى مزارع، ويتابع: "قد لا تحصل على أموالك مرات، وقد تُعطى أقل مما تستحق بعد أيام من العمل الشاق، ولا نستطيع الاعتراض؛ خشية أن يتم إبلاغ السلطات؛ لكوننا في ليبيا بصفة غير قانونية".
ينعكس الفراغ الأمني والسياسي في ليبيا على الليبيين وقاطني البلاد من الأفارقة على حد سواء، إذ يتحدث سودانيون آخرون عن اختطاف بعضهم ثلاث مرات مختلفة على مدار سنة واحدة من إقامتهم هناك، اضطروا فيها لدفع مبالغ تتراوح بين 500 و 800 دينار في كل مرة.
وبعيداً عن الأموال التي يدفعها الأفارقة لخاطفيهم، والذين لا يبدو عملهم منفصلاً عن شبكات التهريب إلى أوروبا، يدفع راغبو الهجرة للمهربين أموالاً طائلة، مع تنصل المهربين من أي مسؤولية عما قد يحدث للمهاجرين، سواء على البر أو في البحر.
المهرب: إمبراطور بين قارتين
تعمل شبكات تهريب المهاجرين على امتداد خطوط الهجرة، أحياناً يصل الأمإأفريقية في عمل يدر دخلاً تقدره السلطات بمليارات الدولارات.
"مادهاني ميريد"، هو شاب إريتري يبلغ من العمر 35 عاماً، كان يقيم بليبيا، ويتخذ من معمر القذافي مثلاً أعلى، عرفته السلطات الأوروبية بعد أن قامت بالتحقيق مع مئات المهاجرين، كما استطاعت السلطات الإيطالية والبريطانية تسجيل مكالمات هاتفية له يسخر فيها من القوارب المكتظة باللاجئين. وفي أثناء حديثه عن أعماله، يدير مادهاني شبكته بذكاء، أوردت صحيفة كورييرا ديلا سيرا الإيطالية أن مادهاني يحصل من كل مهاجر على 5000 يورو (5350 دولاراً)؛ بهدف إيصاله من دولته الإفريقية إلى شمال أوروبا، وهو ما يعني أن شبكته لا تمتد في إفريقيا فقط، وإنما تصل إلى دول جنوب وغرب، وربما شمال أوروبا.
يتهم الأوروبيون ميريد بالتسبب في واحدة من كبرى كوارث غرق اللاجئين بالبحر المتوسط، وهي حادثة غرق قارب للاجئين قبالة سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية والذي تسبب في مقتل 359 مهاجراً.
يتمتع ميريد بدهاء كبير إلى حد أن اعتقل البريطانيون والإيطاليون رجلاً منتصف العام الماضي، على اعتبار أنه المهرب المعروف بلقب الجنرال. لكن تحقيقات لصحيفة الغارديان تبعتها تحقيقات حكومية إيطالية أثبتت أن الأوروبيين اعتقلوا الرجل الخطأ.
لكن المهربين ليسوا سواء.
قام أبكر بدفع 700 دينار ليبي (500 دولار)، ليستقل قارباً مطاطياً إلى أوروبا خريف العام الماضي، إلا أن اختطافه حال دون إتمام الرحلة، ما دفعه للعودة والعمل من أجل توفير المبلغ ذاته مرة أخرى، والتحرك من الشاطئ بنجاح. لكن مهاجرين آخرين أقاموا في ليبيا فترات مختلفة أخبروا "عربي بوست" بأنهم قاموا بدفع أرقام تتراوح بين 1050 ديناراً (750 دولاراً) و 1500 دينار (1070 دولاراً).
أحياناً تبدأ الرحلة، وتتوقف في البحر بعد أن يجد قارب المهاجرين خفرُ السواحل الليبي، وقد تم توثيق حالات انتهاك عديدة بحق المهاجرين الأفارقة بعد احتجاز قاربهم من قِبل خفر السواحل، قبل أن تتم إعادتهم إلى ليبيا التي يحاول معظمهم الهجرة منها من جديد.
يصل المهاجرون للمهربين بسهولة نسبية، هذا ما يخبرنا به الرقم الذي وثقته "فرونتكس"، التي أخبرتنا المتحدثة الرسمية باسمها بأن أرباح التهريب قد "تجاوزت 4 مليارات دولار"، وهو ما يعني توافر وسائل التواصل وسهولة العرض الذي يُمكّن مئات الآلاف من الأشخاص من الوصول للمهربين وتدوير عجلة هذه التجارة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للراغب في الهجرة أن يتواصل مع المهرب عن طريق صفحات معلنة وحقيقية على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن يقوم بالدفع بطرق مباشرة، وتشتهر هذه الطريقة في مسارات التهريب عبر إفريقيا، وكذلك عبر مسار شمال وشرق المتوسط عبر تركيا-اليونان وتركيا-بلغاريا، مع تأكيد أن أعداد المهاجرين من تركيا إلى أوروبا عن طريق البحر قد انخفضت بشكل دراماتيكي بعد الاتفاق الذي أبرمته أنقرة مع الاتحاد الأوروبي والذي يقضي بإعادة المهاجرين القادمين إلى جزر اليونان من الأراضي التركية.
وفي بعض الأحيان، خاصة في مسارات تهريب المهاجرين القادمين من إريتريا، يتم استخدام نظام الحوالة، بمعنى أن يقوم المهاجر بدفع مبلغ من المال كجزء من المبلغ المطلوب، ثم يقوم بإيداع ما تبقى من المبلغ على شكل حوالة بعد وصوله إلى أوروبا، مع وجود ضمانات كافية لدى المهرب؛ كي لا يتهرب المهاجر من الدفع.
ولا يعني ارتفاع أرباح تهريب البشر أن عمليات التهريب تتم بكفاءة أعلى مما كانت عليه في السابق. في الحقيقة قد يكون العكس هو الصحيح.
قبل عامين فقط، كان يتم تزويد المهاجرين بطعام ومؤنة تكفي رحلتهم الطويلة والتي قد تطول أياماً، كما أن المهاجرين حتى نهاية عام 2014 تقريباً كانوا يشحنون القوارب بما متوسطه 90 شخصاً، تضاعف هذا العدد تقريباً في 2016. لم يكن أبكر يدرك ذلك منذ أن حط أقدامه على الأرضية الخشبية لقارب المطاط، لكن قاربه الذي صُمم ليسع 12 شخصاً، كان يكتظ بـ195 شخصاً، لكن أحداً لا يمكنه الاعتراض، فالمهربون مسلحون، كما أن العديد من المهاجرين قد يكونون قد احتُجزوا قبل السفر أياماً في أقبية أو مخازن غير آدمية، يمارس فيها المهربون عنفاً ضد أي احتجاج.
في السابق، كان يمكن لقارب مثل هذا إذا ما تعرض للرياح أو للأمواج العالية أو لأي تهديد بالغرق أن يصمد ساعات، لكن مع رداءة أنواع القوارب المستوردة من الصين والتي بدأ المهربون في استخدامها مؤخراً، يكفي الآن أن يقف شخص واحد أو أن يتحرك بشكل غير محسوب كي ينقلب القارب المكتظ بمن فيه.
المهاجرون لا يسافرون فقط في تلك القوارب المطاطية، فهناك القوارب الخشبية الصغيرة وقوارب الصيد التي قد تحمل مئات الأشخاص على متنها؛ إذ ذكر تقرير أوروبي بداية العام الماضي أن أكثر من ثلثي عمليات التهريب في مسار وسط البحر المتوسط (ليبيا-إيطاليا) تتم باستخدام القوارب المطاطية، والثلث الباقي فقط يتم بالقوارب الخشبية التي يتم شراؤها من الصيادين الليبيين أو استيرادها من مصر وتونس، إلا أن هذه القوارب تكاد تستأثر بكل رحلات المهاجرين والمهربين على بُعد 1600 كيلومتر شرق صبراتة، في بلطيم ورشيد.
الهجرة من مصر.. "المهربون ليسوا بهذا السوء!"
عندما كان أبكر يجاهد كي يوفر النقود اللازمة لرحلة الهجرة، كان مصطفى يقوم بالأمر نفسه ولكن على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، وبطريقة مختلفة بعض الشيء.
كان مصطفى في الخامسة عشرة عندما قرر أن يرحل عن بلدته "الدلنجات" بمحافظة البحيرة شمالي الدلتا، العديد من الأقرباء سافروا، بعضهم قاسى مرارة الفقر والغربة في غابات فرنسا وشوارع إيطاليا وحتى إنكلترا، وعندما ساءت الأوضاع الاقتصادية في مصر بنهاية 2013، كان والد مصطفى البالغ من العمر 48 عاماً يقرر السفر إلى الأردن بعد أن اضطر إلى التخلي عن محل الملابس الذي يديره منذ سنين. لم يكن أمام الرجل الوقت الكثير في الأردن، فلن يُسمح له بتصريح عمل إذا بلغ الخمسين، وعندما اتصل به مصطفى ليبلغه رغبته في الهجرة، لم يشجع الأب ابنه لخوض الرحلة الخطيرة، لكنه سرعان ما قرر أن يشارك في "جمعية" مع آخرين ليوفر لابنه الـ26 ألف جنيه اللازمة للسفر.
قصة مصطفى الحقيقية تبدأ مع توفيره نقود السفر، اقرأ قصته كاملة هنا: الهجرة من مصر .. رحلة الأطفال الرهيبة عبر المتوسط
بعد ثلاثة عشر يومًا في البحر، كان مصطفى ومن معه في القارب على وشك الهلاك، لكنهم كانوا قد اقتربوا من السواحل الإيطالية أيضًا، ولذلك فقد أرسلوا إشارة استغاثة يائسة، على أمل أن يسمعها من يقدر على إنقاذهم.
الفصل الثاني: هنا يجتمعون [من قوارب الهروب إلى مراكب الإنقاذ]
وصلت الإشارة
كان مصطفى يعلم تماماً ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يلتقط أحد إشارة الاستغاثة التي أرسلها قاربهم، عندما تكون في البحر، لا تبدو الخيارات كثيرة، فإن لم ينقذك أحد، فستموت. لا خيار آخر.
لكن، الذي لم يعلمه مصطفى أنه قد يكون على قيد الحياة الآن بسبب ما حدث في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول عام 2013. ففي ذلك اليوم، شهدت جزيرة لامبيدوزا الإيطالية غرق قارب محمل بالمهاجرين من إريتريا والصومال وغانا قادمين من مصراتة الليبية، فقبيل الوصول إلى الجزيرة الهادئة، تحطم القارب الذي كان يقل أكثر من 500 شخص مخلفاً 360 قتيلاً، وصدىً سُمع في كل أنحاء أوروبا.
وإجابة لما حدث، وفي الثامن عشر من أكتوبر، أي بعد أسبوعين بالتحديد من غرق قارب لامبيدوزا، أطلق الإيطاليون عملية بحث وإنقاذ سُميت "ماري نوستروم"، وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على البحر المتوسط. أُنقذ خلال تلك العملية أكثر من 150 ألف شخص خلال العام الذي نشطت فيه، حتى بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
تقول ماتيلد أوفيلين، منسقة الاتصال لمنظمة SOS Mediterranee العاملة في البحث عن المهاجرين وإنقاذهم بالبحر المتوسط والتي تدير السفينة أكواريوس، إن "العديد من مبادرات الإنقاذ التي أُطلقت في المتوسط، والعديد من الأوروبيين الذين تفاعلوا مع قضية اللاجئين، فعلوا ذلك بعد حادثة لامبيدوزا"، لكن إيطاليا لم تكن وحدها قادرة على تمويل عملية إنقاذ بهذا الحجم؛ إذ كانت عملية ماري نوستروم تُكلف الخزينة الإيطالية 9 ملايين يورو شهرياً، ولذلك فقد قرر الأوروبيون أن يبدأوا بعملية إنقاذ أخرى تشارك فيها 22 دولة أوروبية، وتديرها "فرونتكس"، بالتعاون مع المنظمات الخاصة ومؤسسات المجتمع المدني تحت اسم "العملية ترايتون".
في العملية ترايتون، يقوم الأوروبيون بمسح مساحات شاسعة من وسط البحر المتوسط، جواً وبحراً؛ بحثاً عن قوارب المهاجرين القادمين من ليبيا، وتتعاون العديد من المنظمات الأوروبية والدولية بإطلاق سفن للبحث والإنقاذ، تقوم بالتنسيق مع قيادة العملية ترايتون، من خلال غرفة عمليات مركزية مقرها روما، وتُدعى "مركز تنسيق الإنقاذ البحري (MRCC)".
ولتسهيل عملية البحث عن القوارب، قامت قيادة فرونتكس برسم خطوط وهمية لتقسيم وسط البحر المتوسط إلى عدة مناطق، ويتم تحديد المناطق التي يتم البحث فيها مسبقاً، والتنسيق بين السفن المختلفة للبحث فيها.
يقول مايكل، وهو طيار دنماركي يشارك في عمليات البحث عن المهاجرين، إن مهمتهم تتمحور حول الطيران في مناطق معينة محددة مسبقاً، ومسحها بالرادار، وإبلاغ مركز التنسيق في روما بموقع القوارب التي تحتاج لمساعدة عاجلة، في حين يقوم المركز بدوره بإبلاغ أقرب سفينة مؤهلة لموقع القارب بالتوجه إلى الموقع وإنقاذ مَن على متنه.
هذه ليست مهمة سهلة إطلاقاً بالإشارة إلى أن مساحة البحر المتوسط تتجاوز 2.5 مليون كيلومتر مربع.
أحياناً، يتم إبلاغ سفن فرونتكس، أو السفن الحربية الأوروبية العاملة في المتوسط، أو سفن تجارية أوروبية، أو حتى سفن المنظمات الأهلية والخاصة مثل منظمة أطباء بلا حدود MSF التي تسيّر 3 سفن للبحث والإنقاذ قبالة السواحل الليبية، أو منظمة SOS Mediterranee، أو Proactiva Open Arms اللتين تديران سفينة لكل منهما.
ما تفعله سفن هذه المنظمات باختصار، أنها تجوب منطقة محددة قبالة السواحل الليبية وخارج المياه الإقليمية بحثاً عن قوارب المهاجرين. أخبرنا ألكساندر، القبطان الذي يحمل جوازاً روسيّاً، ويقود السفينة أكواريوس، التي تديرها منظمتا أطباء بلا حدود وSOS Mediterranee، بأنه يحب دوماً تذكير نفسه بما يفعل، "لقد غرق أكثر من 5000 شخص خلال العام الماضي، من دوننا كان هذا الرقم ليتضاعف مرتين أو ثلاثاً، هذا ما أحب أن أتذكره دوماً".
يقوم كل من ألكساندر ومايكل باستقبال أوامر مركز التنسيق بالتوجه إلى مواقع بعينها للتأكد بصريّاً من وجود قوارب بعد استقبال إشارات استغاثة، لكننا علمنا في أثناء مشاركتنا في واحدة من الطلعات الجوية للبحث عن اللاجئين أن طائرات فرونتكس لا تقترب من المياه الإقليمية لليبيا وتظل على مسافة 80 ميلاً بحرياً من الشواطئ الليبية، في حين يقف طاقم السفينة أكواريوس على بُعد 20 ميلاً بحرياً منها، وهو ما يعزز من فرص الأخير في التدخل السريع للإنقاذ.
عندما أرسل القارب الذي يضم مصطفى واللاجئين القادمين من مصر إشارة الاستغاثة، استقبلها مركز التنسيق في روما، قبل أن يقوم بتحويلها إلى أقرب سفينة بالقرب من موقع القارب، كانت سفينة بضائع ضخمة، كما يقول مصطفى. "اقتربوا منا بعد ساعات من إرسال الاستغاثة، وأخبرونا بأنهم جاءوا بناء على الأوامر من روما، وفوراً بدأوا بنقلنا على متن سفينتهم، وإعطائنا طعاماً وشراباً". حدث ذلك في مساء يوم من الأيام الأخيرة من شهر أبريل 2016، وفي اليوم التالي، اقتربت منهم سفينة حربية إيطالية، لينتقل إليها جميع المهاجرين، قبل أن تتحرك بهم باتجاه سواحل صقلية.
لكن مصطفى كان محظوظاً بعض الشيء، فليست كل القوارب قادرة على إرسال إشارة الاستغاثة، كان أبكر يعاني في قاربه المطاطي، فبعد أن تحرك قاربهم في السابعة صباحاً، وبعد مسيرة ساعات، توقف في عرض البحر، بدأت تتعالى صرخات بعض المهاجرين معه، أحدهم يختنق، جميعهم يخشون الحركة داخل القارب، ومعظمهم لا يستطيع أن يتحرك بسبب اكتظاظ القارب أصلاً، لم يكن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً سوى الانتظار، كان ذلك عندما رصدهم رادار السفينة أكواريوس التي تجوب تلك المنطقة بحثاً عن أمثالهم.
أكواريوس: ملائكة البحار!"
"ما الذي جاء بي إلى هنا؟"، لعل هذا السؤال كان ما يُلح على بال أبكر عندما توقف القارب المطاطي الذي يستقلّه في عرض البحر. عشرات الوجوه السمراء تحيط بـ"عبدالرحمن أبكر" إلى الحد الذي لا يقدر معه أن يحرك إحدى يديه، فالقارب الذي صُمم ليُقلّ 15 شخصاً كان يحمل على متنه 185 رجلاً و10 نساء!
كانت الشمس في كبد السماء عندما أدرك أبكر أن قاربهم لن يكمل رحلته المستحيلة. وبينما تعالت نهنهات البكاء والصيحات اليائسة، لمح الجميع سفينة صغيرة على البُعد، وفي الوقت الذي كانت الأيادي السمراء تجاهد لتعلو في إشارة لتلك السفينة، كان طاقم الأخيرة يعمل على قدم وساق من أجل انتشال القارب بمن فيه.
قبل ساعات قليلة، وفي صباح ذلك اليوم، وبينما يتناول أفراد الطاقم طعام الإفطار، صاحت الممرضة الكندية "كيم" لأحد أفراد الطاقم تمازحه: "ما رأيك يا ماكس؟ ما الذي تتوقعه ليوم الجمعة الثالث عشر من الشهر؟"، كانت كيم تشير إلى الأسطورة الغربية التي ترى في التقاء يوم الجمعة بتاريخ الثالث عشر من الشهر الغريغوري رمزية حظ سيئ. لاحقاً، اكتشف الجميع أن ذلك اليوم كان الأصعب من بين الأيام العشرين التي قضاها طاقم السفينة في هذه "الدورة".
تبحر السفينة أكواريوس لمدة 3 أسابيع كل مرة، يسمي الطاقم هذه الفترة اسم "الدورة"، في الدورة الواحدة تنطلق أكواريوس من ميناء كاتانيا على جزيرة صقلية الإيطالية، تصل السفينة إلى منطقة البحث والإنقاذ في أقل من يومين من الإبحار في الأجواء الاعتيادية، وتجوب المنطقة الواقعة على بُعد 20 ميلاً بحرياً من الشواطئ الليبية ذهاباً وإياباً.
تضم السفينة 3 فرق رئيسية: طاقم البحرية، وطاقم طبي وإغاثي تابع لمنظمة أطباء بلا حدود، وطاقم الإنقاذ التابع لمنظمة SOS Mediterranee. يتم تجديد أفراد الطاقم كل فترة، معظمهم يعمل على متن السفينة لمدة 3 أشهر، يقضون منها بضعة أيام كل شهر على الأرض الإيطالية، قبل أن يعودوا مرة ثانية إلى البحر.
نتحدث هنا عن أطباء وممرضات وموظفي إغاثة وعمال إنقاذ ومنسقي اتصال وبحارين ومهندسين وطباخين جاءوا من دول متعددة. في الدورة التي انطلقت يوم 9 يناير، كان على متن أكواريوس أفراد من دول متعددة؛ مثل: الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وألمانيا وبولندا وروسيا البيضاء واليونان والفلبين وغانا وتونس وإيطاليا وإندونيسيا ورومانيا وإنكلترا وإيرلندا.
ويوم الجمعة، كانت أكواريوس على بُعد 25 ميلاً بحرياً من الشواطئ الليبية، عندما شاهد الطاقم قارباً في الحادية عشرة وخمس وخمسين دقيقة، وبعد نصف ساعة تماماً، بدأت عملية الإنقاذ.
تتم عملية الإنقاذ بتراتبية مميزة ونظام ثابت، في البداية يخبر القبطان مديرَي فريقي أطباء بلا حدود وSOS Mediterranee وهما: الإنكليزي إدوارد، والفرنسي يوهان، بوجود قارب للمهاجرين، بعدها يتم إبلاغ مركز التنسيق في روما بوجود قارب للمهاجرين وبتوجه أكواريوس لإنقاذه، بالتزامن مع إعلان مديرَي الفريقين داخل السفينة التحرك تجاه القارب لإنقاذ من هم على متنه. وفوراً، يُجهز قاربان سريعان Rhib بواسطة تقنيي السفينة ويتم إنزالهما للمياه، وكذلك يتجهز الفريق الطبي ببعض أدوات الإسعافات الأولية، ويقوم فريق الإنقاذ بتجهيز سترات النجاة، ويهبط على قارب الإنقاذ السريع منقذان اثنان في العادة، ومساعد ثالث من الفريق الطبي غالباً، بالإضافة إلى قائد القارب الذي يتوجه بسرعة إلى قارب المهاجرين الذي تقف السفينة منه على بُعد عشرات الأمتار.
بمجرد وصول القارب السريع، يجري تقييم عاجل بواسطة المسعفين، لمعرفة ما إذا كان هناك مهاجرون في حالة خطرة، أو مرضى، أو أطفال، وفوراً اكتشف طاقم أكواريوس وجود جثتين على سطح القارب، شخصان يبلغ أحدهما الخامسة عشرة تُوفيا جراء الاختناق والدهس والغرق داخل القارب!
عندما تحدثنا إلى ماكس آفيس، نائب منسق عمليات الإنقاذ والمنقذ الرئيسي في كل رحلات قوارب الإنقاذ، كان غاضباً بشدة، يبدو ماكس متأثراً، "لا يعلم العالم عن ذلك، في إنكلترا قد يهتم الناس لحادث سير بسيط، ولا يعلمون بغرق المئات هنا!".
عادة ما يقرر المنقذون ما إذا كانوا يريدون نقل المهاجرين إلى قوارب أخرى أكثر أماناً من قاربهم إذا كان الأخير في حالة مزرية، لكن قارب المهاجرين هذه المرة لم يكن بهذا السوء، لذلك بدأ المنقذون في توزيع سترات النجاة على المهاجرين، وإخبارهم بأنهم هنا لمساعدتهم، ومحاولة تهدئتهم. يتحدث إليهم في هذه المرحلة وما بعدها المنسق الثقافي للفريق، أسامة، وهو شاب تونسي يتحدث الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، بالإضافة إلى العربية. "نقوم بإبلاغهم كل ما نريد قوله بكلمات قصيرة واضحة بلغات متعددة"، يقول أسامة.
بعدها، يبدأ المنقذون بنقل المهاجرين إلى قارب الإنقاذ السريع، الذي يتوجه بحمولته إلى السفينة، لإنزالهم على متنها، قبل أن يعود قارب الإنقاذ مرة أخرى لموقع قارب المهاجرين، ويقوم المنقذون بنقلهم، وهلمّ جرا. بعد عدة مرات من النقل، شاهدنا عبدالرحمن أبكر لأول مرة، كان يضحك بسعادة!
بعد وصول المهاجرين إلى السفينة، يتم إعطاؤهم حقيبة صغيرة تضم بعض الملابس ومنشفة وطعاماً عالي السعرات، فيما يبدأ موظفو أطباء بلا حدود بتوثيق بياناتهم بشكل سريع، تقوم بذلك الممرضة هايدي، التي جاءت من ألمانيا وتبلغ من العمر 59 عاماً، بالإضافة إلى كيم، وأسامة، والطبيبة الألمانية آنيا. جميعهم يقومون بعمل مضنٍ هنا!
بالنسبة لأكثر من شخص من طاقم أكواريوس، لا يبدو المال دافعاً على الإطلاق لوجودهم هنا، في الحقيقة، يعمل الجميع متطوعين، عندما سألنا بينيديكت، وهو بحار ألماني عمل في شركات تأمين كبرى ويعمل الآن على متن أكواريوس، عما إذا كان يحصل على نقود أفضل هنا، كانت إجابته ضحكة عالية. يعمل بينديكت قبطاناً على سفينة إنقاذ ألمانية أخرى، لكنه يساعد في عمليات الإنقاذ على أكواريوس في أثناء صيانة سفينته وتجديدها، وفي الحالتين، فإنه يعمل بلا مقابل ماديّ تقريباً.
بعد إنقاذ المهاجرين واستقرارهم على السفينة، يتم نقلهم إلى الأرض الإيطالية، لكن في بعض الأوقات، يشخص الأطباء حالات مَرَضية تستدعي تدخلاً عاجلاً، وهو ما حدث لأحد رفاق أبكر، الذي كان مصاباً بشكل من أشكال الصرع، وهو ما دعا الطاقم لاستدعاء طائرة تابعة للبحرية المالطية، والذين نقلوا المهاجر وقريباً له إلى مالطا للعلاج.
يقوم طاقم أكواريوس بالتنسيق مع غرفة العمليات في روما لمعرفة ما إذا كان على السفينة نقل المهاجرين إلى إيطاليا فوراً، أو الانتظار في منطقة البحث والإنقاذ لإيجاد المزيد من القوارب، في بعض الحالات، يمكن لطاقم السفينة أن يقوم بنقل المهاجرين على متنه إلى سفينة أخرى، تابعة للبحرية الإيطالية أو لـ"فرونتكس"، وفي كل الأحوال، يتم نقل المهاجرين إلى أوروبا بأسرع ما يمكن، يعلم أبكر الآن أنه على وشك الوصول.
الفصل الثالث: هكذا ينتهون [فشل أم نجاح؟]
الوصول إلى الأرض الحلم.. وأوروبا: من أنتم؟"
عندما وصل أبكر على متن أكواريوس إلى شواطئ مدينة ميسينا الإيطالية، كانت هناك العديد من وسائل الإعلام؛ ممثلون لمنظمات دولية كبرى، موظفون تابعون لـ"فرونتكس" ورجال شرطة إيطاليون بالطبع، لكن أبكر بات ليلته مع مئات آخرين على ظهر أكواريوس، فلم تكن إيطاليا مستعدة لاستقبالهم بعد.
يمكنك قراءة المزيد عما يفعله الأفارقة في أوروبا هنا: يوميات قارب نجاة "7" | إيطاليا: القلعة الضعيفة عند البحر
كان أول ما فعله الإيطاليون هو الصلاة على الشخصين اللذين توفيا على متن قارب المهاجرين، صلاة كاثوليكية تبعتها صلاة جنازة إسلامية على رصيف الميناء، المهاجرون يشاهدون من على السفينة، والدموع تترقرق في أعين موظفي الصليب الأحمر، وأقارب الضحيتين يجلسون بحزن خلف المصلين، بعد قليل سينتقل الأقارب إلى مقر واحدة من المنظمات التي تهتم بالصحة النفسية للمهاجرين، فجميعهم يحتاجون لدعم نفسي كبير بعد هذه الرحلة.
بُعيد الصلاة، بدأ المهاجرون في الخروج من السفينة أكواريوس، إلا أنه بعد دقائق فقط، وخروج عدد من المهاجرين، قرر الإيطاليون الانتظار لليوم التالي وإكمال عملية النقل. وبمجرد أن يهبط المهاجرون على الأرض، يبدأ موظفو "أطباء بلا حدود" بتحويل الحالات التي تحتاج لحماية عاجلة إلى منظمات بعينها، فمثلاً يتم تحويل الأطفال غير المصحوبين إلى منظمة Save The Children، وضحايا العنف الجنسي إلى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة UNHCR، وضحايا الاتجار بالبشر إلى المنظمة الدولية للهجرة IOM التابعة للأمم المتحدة كذلك والتي من جانبها تنسق مع الحكومة الإيطالية جهود مكافحة تهريب البشر والاتجار بهم.
في هذا المكان تحديداً، وعند ميناء ميسينا، قابلنا عمر حويلة لأول مرة.
اقرأ رحلة عمر حويلة داخل أوروبا هنا: الخروج من إيطاليا .. بحثًا عن موضع آخر في الجنة
في اليوم التالي لوصول أكواريوس إلى الشواطئ الإيطالية، بدأ المهاجرون في الهبوط عن سطح السفينة منذ ساعات الصباح الباكر، عندما عدنا للبحث عن عبدالرحمن أبكر، كان قد اختفى وسط الزحام، حاولنا إيجاده بين المهاجرين الذين يتم نقلهم سريعاً بعيداً عن الميناء، إلا أن أحداً لم يكن على استعداد لمساعدتنا في العثور عليه، لكن شاباً لا يمتلك ملامح إيطالية، لفت انتباهنا، حيث كان يساعد الشرطة الإيطالية في نقل المهاجرين القُصّر من أكواريوس إلى خيمة خاصة بهم، عندما تحدثنا إليه أجابنا بلهجة مصرية أصيلة، كان هذا هو مصطفى محمد.
يعيش مصطفى الآن في أحد مراكز استقبال اللاجئين، يطلق عليه "الفندق"، فيما أوراق قبول طلب هجرته الإنسانية على وشك الانتهاء، يتعلم الإيطالية ويستعد للحصول على الشهادة الإعدادية، معظم المهاجرين في هذه المرحلة لا يقومون بأي عمل سوى الدراسة، لكن أحد أصدقاء مصطفى ساعده وأوصله للتعاون والعمل مع الشرطة الإيطالية، بلا مقابل مادي ثابت.
أما عمر حويلة، فهو يقيم بغرفة تابعة للمركز الإسلامي في ميسينا، بعد أن تنقل بين بيوت المهاجرين ومراكز الاستقبال، ويعمل بدوام كامل مع الشرطة الإيطالية كذلك، فيما يستعد لإتمام الدراسة الثانوية تمهيداً لدخول الجامعة، التي يطمح إلى أن يتعلم فيها الترجمة.
ما يفعله اللاجئون باختصار، أنهم يستبدلون بمعاناتهم الممزوجة باليأس في بلادهم، معاناة ممزوجة بالأمل في أوروبا
لم نعثر على عبدالرحمن أبكر، لكننا علمنا أن جميع المهاجرين الذين تم إنقاذهم على متن السفينة أكواريوس قد تم نقلهم إلى مراكز استقبال في صقلية وأنهم جميعاً بخير، يعلمون الآن أن أوروبا ليست الجنة، لكن بالنسبة للكثيرين منهم، فهم استبدلوا المعاناة مع اليأس ببلادهم، بمعاناة أخرى ممزوجة بالأمل في حياة أفضل.
الطيارون الدنماركيون سيكملون طلعاتهم الجوية بحثاً عن القوارب ومسحاً لشواطئ أوروبا، وسينضم إليهم طيارون من دول أوروبية أخرى في وقت لاحق.
المهاجرون سيظلون يقتحمون البحر في محاولة لعبوره إلى الضفة الأخرى، ستزهق منهم أربعة عشر نفسًا كل يوم، لكن ذلك لن يثني غيرهم عن المحاولة من جديد.
هذا الشهر، تكمل أكواريوس عامها الأول في الخدمة كسفينة بحث وإنقاذ، وبعد يومين من الرسو في ميناء كاتانيا عقب رحلة الإنقاذ الأخيرة، كان طاقم أكواريوس يستعد للرحيل مجدداً، علمنا بعد ذلك أن الأسابيع الثلاثة التي تلت شهدت إحدى أكثر الدورات ازدحاماً في البحر، وحققت فيها أكواريوس رقماً قياسياً جديداً باستضافة 785 مهاجراً على متنها بعد إنقاذهم من أجواء شديدة السوء على بعد 30 ميلاً بحرياً من السواحل الليبية، لكن المفارقة أنه كلما ازداد الرقم القياسي لأكواريوس، عني ذلك ازدياد أعداد المهاجرين، وكذلك أعداد الغرقى. من جانب، سيفخر القبطان ألكساندر بما تحققه سفينته، ومن جانب آخر، سيكون من المحزن ألا يصمد رقمه القياسي وقتاً طويلاً.