تطرح السيطرة السريعة لسرايا الدفاع عن بنغازي (تحالف لمسلحين من شرق ليبيا) على منطقة واسعة في خليج سرت (شمال وسط)، وتثبيت المناطق التي سيطرت عليها الجمعة الماضي، دون أن تتمكن قوات المشير خليفة حفتر من استعادتها كما جرت العادة في عمليات سابقة، تساؤلات حول خلفيات هذا التقهقر، وما إذا كان له علاقة بتغير مواقف دولية بشأنه، أثرت على وضعه عسكرياً.
أطراف في شرق ليبيا( موالية لحفتر) بررت ذلك بدعم كتائب مصراته (أكبر قوة عسكرية بالغرب الليبي) ودول إقليمية لسرايا الدفاع عن بنغازي، وهو ما نفته جميع هذه الأطراف، وأكدت أن المعارك التي وقعت في النوفلية وبن جواد والسدرة وراس لانوف، جرت بين قوات من الشرق الليبي (سرايا الدفاع) ضد قوات من الشرق (قوات حفتر)، بمعنى أن كتائب الغرب الليبي لم تشارك في هذه المعارك التي وقعت في 3 مارس/آذار الجاري.
هل تخلى الحلفاء الإقليميون والدوليون عن حفتر؟
لكن اللافت للانتباه، التحاليل التي تحدثت عن تخلي الحلفاء الإقليميين والدوليين لخليفة حفتر عن دعمه في معركة الهلال النفطي الأخيرة؛ نظراً لتغوُّله ورفضه أي حلول سياسية؛ بما فيه مجرد لقائه رئيس المجلس الرئاسي فائز مصطفى السراج، في القاهرة، سواء بواسطة مصرية أو جزائرية، عكس رغبة دول الجوار الليبي الثلاث؛ مصر والجزائر وتونس.
ويستدل أصحاب هذا الطرح، بأن قصف طيران حفتر أرتال سرايا الدفاع المتقدمة من قاعدة الجفرة الجوية على بُعد عشرات الكيلومترات من الهلال النفطي وعلى أرض صحراوية مفتوحة (لا توجد فيها تحصينات طبيعية من جبال وغابات تحمي المهاجمين من القصف الجوي)، لم يكن كثيفاً كما كان في السابق، وافتقد أيضا الدقة، ما قد يؤشر على أن القصف في مرات سابقة كان بدعم أطراف خارجية وغاب هذه المرة.
وحتى بعد سيطرة سرايا الدفاع على مطار راس لانوف ومينائها النفطي، وكذلك ميناء السدرة النفطي، وبلديتي بن جواد والنوفلية، لم تستطع الغارات الجوية إجبارهم على الانسحاب كما في السابق، رغم سيطرة قوات حفتر على الجو.
وفي هذا الصدد، يقول الخبير الجزائري حسني عبيدي، مدير مركز الدراسات والأبحاث حول العالم العربي والمتوسط بمدينة جنيف السويسرية (غير حكومي)، إنه "منذ إفشال اللقاء الثنائي بين حفتر وفائز السراج، بالقاهرة، وقع تغير ملحوظ في مقاربة بعض الدول الغربية تجاه حفتر".
وأوضح عبيدي، الأستاذ في المعهد الأوروبي بجامعة جنيف، أن "إلغاء حفتر الاجتماع الذي كان مقرراً مع فائز السراج (رئيس المجلس الرئاسي الليبي)، في آخر لحظة، أفقده الكثير من المصداقية أمام الدول الغربية، وظهر أنه ليس على استعداد للانفتاح على حكومة الوفاق".
وفي 14 فبراير/شباط الماضي، رفض حفتر، في آخر لحظة، لقاء السراج، بالقاهرة، كما نفى في وقت سابق، عقب زيارته للجزائر في 18 ديسمبر/كانون الأول 2016، أي لقاء سيجمعه بالسراج، في عاصمة الأخيرة.
وأضاف عبيدي: "حفتر خذل دولة إقليمية مهمة هي الجزائر، بطريقة غير لبقة، عندما رفض وساطتها، ثم رفض الوساطة التونسية وبعدهما مصر".
وأشار إلى أن "مارتن كوبلر، المبعوث الأممي إلى ليبيا، أخبر دولاً غربية، ومنها ألمانيا التي تدعمه، بأن حكومة الوفاق الليبية ترغب في فتح الحكومة لوجوه جديدة، لكن مجلس النواب أصبح رهينة في يد حفتر، وفقدَ حرية القرار".
وتابع: "هذا الأمر أحدث تغيّراً في مواقف الدول الغربية (الداعمة لحفتر)، لكن ذلك لا يعني تخليها تماماً عنه".
ومع أن مصر والإمارات وحتى فرنسا، لم تعلن جميعها، رسمياً، مشاركتها في قصف جوي لخصوم حفتر، سواء في بنغازي أو بأجدابيا أو حتى في الهلال النفطي، إلا أن أطرافاً ليبية وتقارير إعلامية وأمنية محلية تؤكد ذلك، وأهم مؤشراته مقتل 3 جنود فرنسيين في معارك مع سرايا الدفاع بالمنطقة ما بين بنغازي وأجدابيا، الصيف الماضي.
وكانت "عربي بوست" أول من كشف وصول قوات كوماندوز فرنسية لدعم حفتر ضمن غرفة عمليات عسكرية غربية بقيادة فرنسية وبمشاركة إماراتية أردنية ذات تقنية فائقة ببنغازي في بداية العام الماضي، قبل أن تعود فرنسا وتسحب قواتها بعد استياء حكومة الوفاق الوطني.
هل تكون روسيا حلاً بديلاً لحفتر؟
وترددت أنباء عن سعي حفتر للحصول على دعم مباشر ثابت من روسيا مقابل توسيع نفوذها بالبلد الغني بالنفط في شمال إفريقيا، فقد أجرى محادثات رفيعة المستوى مع مسؤولين روس على متن حاملة طائرات روسية متمركزة في البحر المتوسط، والتقى أيضاً خلال الأشهر السبعة الماضية وزيري الدفاع والخارجية الروسيين؛ من أجل الدعم وتزويده بالسلاح.
وقد سبق لحفتر أن زار موسكو مرتين العام الماضي، إحداهما كانت في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، حيث طلب مساعدة روسيا لرفع حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا منذ عام 2011.
تراجع على الأرض وهيمنة في الجو؟
وسرايا الدفاع، التي انطلقت من جنوب مدينة أجدابيا باتجاه بنغازي (على مسافة 160 كم)، في يونيو/حزيران 2016، لدعم مجلس شورى ثوار بنغازي، تم قصفها بشدة، ولعب سلاح الطيران دوراً رئيسياً في قطع الطريق عليها وإجبارها على التراجع بعدما لم يكن يفصلها سوى نحو 50 كم عن بنغازي؛ بل أكثر من ذلك تم طردها حتى من معاقلها الرئيسية في جنوب أجدابيا، ودفعها للفرار إلى قواعدها الخلفية في محافظة الجفرة (وسط) الخاضعة للقوة الثالثة التابعة لكتائب مصراته والمؤيدة لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس.
ولعب سلاح الجو التابع لحفتر دوراً جوهرياً أيضاً في طرد مسلحين تابعين لإبراهيم جضران، القائد السابق لحرس المنشآت النفطية، ولسرايا الدفاع، في هجمات سابقة تلت عملية سيطرة قوات حفتر على الموانئ النفطية الأربعة في سبتمبر/أيلول الماضي، رغم تمكن قوات جضران أو سرايا الدفاع من السيطرة على بلدة أو بلدتين لساعات قبل الانسحاب مجدداً؛ بسبب الضربات الجوية.
وعلى هذا الأساس، يرى متابعون للشأن الليبي أن القوات الجوية التي كانت تشارك في قصف سرايا الدفاع وقوات جضران، سواء بشرق أجدابيا أو في الهلال النفطي لم تكن كلها تابعة لحفتر، بدليل أن الغارات الجوية الحالية على سرايا الدفاع بالهلال النفطي لم تكن كثيفة ولا فاعلة كما في المواجهات السابقة.
وحتى بعد قيام قوات حفتر بهجمات مضادة لاستعادة المنطقة من سرايا الدفاع، تم صدها وخسر مزيداً من القتلى، ما يعكس تراجع فاعليتها العسكرية رغم هيمنتها على الجو.
ما سبق يطرح احتمالية عدم حصول حفتر على دعم من حلفائه الإقليميين والدوليين بهدف إعادة تحجيمه؛ بغية السيطرة عليه ودفعه ليكون أكثر ليونة بشأن المساعي الدولية والإقليمية لضم حفتر إلى الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، مع إمكانية تعديله بالشكل الذي يمنح له دوراً في معادلة الحكم في المرحلة المقبلة.
النفط وليبيا المفيدة
فقدان حفتر ميناءين نفطيين، بالإضافة إلى مطار استراتيجي، جاء بعد نحو أسبوعين من اتفاق وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر، بالرفض القاطع لأي تدخل خارجي في شؤون ليبيا، وأي حل عسكري للأزمة، ومن أن هذا الاتفاق، إن تم الالتزام به، أن يشكل عائقاً أمام الدول الإقليمية أو الدولية التي ترغب في دعم أحد الأطراف، وخاصة الجناح الذي يمثله حفتر.
وفي هذا السياق، يرى الخبير الاستراتيجي الدولي حسني عبيدي، أن ما تسمى معركة "ليبيا المفيدة" (الهلال النفطي الذي يحتوي على 80% من ثروات البلاد النفطية)، تحمل العديد من الرسائل، تتمثل في أن قوات حفتر -ورغم تفوقها العسكري- غير قادرة على بسط نفوذها إلى غاية الحدود الجزائرية (غرباً)".
وأضاف أن من بين الرسائل الأخرى لمعارك الهلال النفطي "محدودية حفتر في الحفاظ على المناطق التي يسيطر عليها، ومعنى ذلك أن مدينة بنغازي (عاصمة الشرق الليبي) أصبحت قريبة من سرايا الدفاع التي تعتبر مزيجاً من قوات آتية من الشرق الليبي".
أما الرسالة الأخيرة من معارك الهلال النفطي حسب عبيدي، فإن "حفتر، أعطى صورة أن ما يهمه في ليبيا هو الحصول السلطة وعلى موارد البلاد (النفطية)، ولا يهمه استقرار ليبيا".
ميليشيات إقليمية حليفة.. هل يمكن أن تكون بديلاً لحفتر؟
غير أن قراءات أخرى تعتقد أن سرايا الدفاع والمتحالفين معها (قوات جضران، وكتائب مصراته)، من الممكن أن تكون استمالت من تسميهم "المرتزقة" إلى جانبها، خصوصاً مع اتهام حفتر بالاستعانة بمسلحي حركة العدل والمساواة السودانية وقبائل التبو التشادية في تأمين موانئ الهلال النفطي، وهو ما بدا واضحاً في تقهقر قوات حفتر بسرعة غريبة بكل من النوفلية وبن جواد والسدرة وراس لانوف.
ويعكس استعانة القوات المدعومة من مجلس النواب في طبرق (شرق)، بمسلحين من السودان وتشاد، افتقاد قوات حفتر العدد الكافي من القوات الليبية التي بإمكانها تأمين المناطق الخاضعة لسيطرته، خاصة أن قواته ما زالت لم تنهِ معركتها الرئيسية في بنغازي ضد مجلس شورى ثوار المدينة، كما أنها فتحت مؤخراً جبهة جديدة في مدينة درنة (شرق) ضد مجلس شورى مجاهدي المدينة.
بينما هناك رأي آخر، يتحدث عن تململ تحالفات حفتر مع بعض قبائل الشرق المساندة له، واستغلال خصومه لهذا الأمر على غرار إبراهيم جضران، المنحدر من قبيلة المغاربة، المنتشرة في منطقة الهلال النفطي وبالأخص في الأحياء الغربية لأجدابيا، واحتمال اعتماده على "خلايا نائمة" (كما يصفها خصومه) من أبناء قبيلته لقلب الطاولة على حفتر في المنطقة، خاصة أن قواته (حرس المنشآت النفطية سابقاً) تم طردها من الهلال النفطي بفضل تحالف حفتر مع شيخ قبيلة المغاربة صالح الأطيوش.
ورغم استياء دول غربية وإقليمية من تشدد حفتر، ورغبتها في "تحجيمه" لإجباره على اللجوء إليها مقابل تقديم تنازلات سياسية، فإنه من المستبعد أن تتخلى هذه القوى عن الرجل القوي في الشرق الليبي لحساب قوى محسوبة على الثورة، ترى فيها بعض الدول الإقليمية والغربية خطراً عليها.