الهجرة من مصر .. رحلة الأطفال الرهيبة عبر المتوسط

يرسل الآلاف من المصريين أطفالهم إلى رحلة مميتة عبر البحر في محاولة للبحث عن حياة أفضل، هذه قصة واحد منهم

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/09 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/09 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش

هذا المقال جزء من تحقيق: "20 يوما في بحر الظلمات!.. رحلة "عربي بوست" مع قوارب المهاجرين المتهالكة في المتوسط"

كان مصطفى في الخامسة عشرة عندما قرر أن يرحل عن بلدته "الدلنجات" بمحافظة البحيرة شمالي الدلتا، العديد من الأقرباء سافروا، بعضهم قاسى مرارة الفقر والغربة في غابات فرنسا وشوارع إيطاليا وحتى إنكلترا، وعندما ساءت الأوضاع الاقتصادية في مصر بنهاية 2013، كان والد مصطفى البالغ من العمر 48 عاماً يقرر السفر إلى الأردن بعد أن اضطر إلى التخلي عن محل الملابس الذي يديره منذ سنين. لم يكن أمام الرجل الوقت الكثير في الأردن، فلن يُسمح له بتصريح عمل إذا بلغ الخمسين، وعندما اتصل به مصطفى ليبلغه رغبته في الهجرة، لم يشجع الأب ابنه لخوض الرحلة الخطيرة، لكنه سرعان ما قرر أن يشارك في "جمعية" مع آخرين ليوفر لابنه الـ26 ألف جنيه اللازمة للسفر.



هاجر مصطفى إلى إيطاليا قبل أن يتم السابعة عشرة

قصة مصطفى الحقيقية تبدأ مع توفيره نقود السفر، ففي محافظته، يعرف الجميع أنه إذا كنت تود الهجرة، فعليك بقرية "كوم زمران"، وهناك يعمل الكثيرون في هذا "البيزنس" منذ وقت طويل، لكن مصطفى الذي خاض الكثير من معارفه هذه الرحلة، كان يعرف تماماً إلى من يذهب: "الشيخ علي"، أو "الشيخ".

هناك قرىً أخرى مثل "كوم زمران" في معظم محافظات مصر، بعض من تحدثنا إليهم أخبرونا بأن قرى مثل "برج مغيزل" بكفر الشيخ أو "ميت الكُرَما" في محافظة الدقهلية وقرى مماثلة بمحافظات الغربية والشرقية والفيوم تضم الآلاف من العاملين في هذه التجارة المربحة.

يتحدث مصطفى عن "الشيخ" باحترام زائد، لم يرغب في أن يعلمنا اسمه الحقيقيّ؛ كي لا يتعرض الرجل للأذى في مصر، لكنه حكى لنا كيف أن "الشيخ" كان مثل الأب له عندما أخبره بصدق بأن "الرحلة خطيرة، وأن الجميع لا يصلون إلى الأرض الأخرى على قيد الحياة، والنّصيب هو ما يقرر هنا".

مصطفى ليس القاصر الوحيد الذي يقوم أهله بإرساله على طريق الهجرة الرهيب. فقد كشفت الإحصاءات أن مصطفى كان واحدًا من بين 2467 طفلًا مصريًا بلا مرافقين بالغين وصلوا إلى إيطاليا خلال عام 2016، وبهذا الرقم حلت مصر في المرتبة الرابعة بعد إريتريا وغامبيا ونيجيريا في عدد الأطفال المهاجرين إلى أوروبا وحدهم.

لكي يهاجر، غادر مصطفى منزله 5 مرات منذ بدايات مارس/آذار 2016؛ من أجل أن يستقل قارب المهاجرين، لكن كل مرة كانت الرحلة تتوقف في مرحلة مبكرة. في واحدة من تلك المرات، تم "تخزين" مصطفى وعشرات آخرين في منزل بالقرب من شاطئ مدينة بلطيم أسبوعاً قبل أن يتم إخبارهم بإلغاء الرحلة. وفي مرة أخرى، قبضت السلطات على مصطفى و6 صوماليين آخرين وخفير كان يحرس المخزن الذي انتظروا فيه بمدينة الحامول، واعتُقل أياماً قبل أن يُفرج عنهم جميعاً، وفي مرة ثالثة خدعهم بعض العمال الذين يعملون مع المهربين في الإسكندرية، وسرقوا حاجات رفاق مصطفى قبيل الصعود إلى سفينة شحن كانوا سيختبئون داخلها، إلا أن الشاب استطاع الفرار من بين أيديهم، ليعود لـ"الشيخ"، الذي وعده بإعادة ما تم سرقته من رفاقه، وهو ما تم بالفعل لاحقاً مع تقديم اعتذار يوضح تراتبية وسيطرة عمل شبكات المهربين في مصر.

كانت محاولات الهجرة المستمرة تتعطل لأسباب قد يتم إبلاغ المهاجرين بها، مثل كثافة وجود السلطات في بعض نقاط التحرك، أو لسوء الأحوال الجوية على الشاطئ، أو حتى لأعطاب في القوارب. لم ينس مصطفى أن يؤكد أن والده في الأردن لم يعلم باعتقاله ولا بأي من تلك المحاولات، وإلا لما كان سمح له بأن يجرّب مرة أخرى.


في المرة الأخيرة، يقول مصطفى" "أخذني أخو الشيخ علي من منزلنا، ليوصلني إلى منزل فخم يملكه بعض كبار المهربين"، يصمت مصطفى قليلاً ويضحك معلّقاً على الثراء الظاهر في المنزل: "كله من خيرنا!". بعدها، انطلق مصطفى مع شخص آخر، ليصل إلى سيارة نقل، لم يدرك في ظلام الليل أن على ظهرها عشرات من المهاجرين الأفارقة، انضم لاحقاً إلى تلك السيارة عدد من المهاجرين السودانيين، إلا أن السائق الذي يجلس بجواره مصطفى طلب منهم أن يصعدوا على ظهر السيارة وأن يتركوا حقائبهم بحوزته. "فتح السائق حقائب السودانيين وسرق بعضها قبل أن نصل". بعدها، وصل مصطفى ورفاقه إلى "عزبة" أو قرية صغيرة على ساحل بلطيم.

هناك، صَفَّ المهربون المهاجرين بنظام، قبل أن ينتقلوا على متن 3 قوارب مطاطية صغيرة إلى البحر، كل قارب يضم قرابة 30 شخصاً، يحكي مصطفى أنه بعد نصف ساعة من الحركة، انتقل المهاجرون من القوارب الصغيرة إلى قارب صيد حديديّ، تحرك بهم لمدة 6 ساعات.

يفتش المهربون حقائب المسافرين وقد يصادرون أي كاميرات أو هواتف حديثة، لكن ما حدث مع مصطفى كان أيسر مما حدث مع أبكر، ففي ليبيا، تحدث المهاجرون عن منعهم من اصطحاب أي أمتعة أو هواتف أو أي شيء على الإطلاق، سوى الملابس التي يرتدونها، أما مصطفى، فلم يفتشه أحد. لكن عمر حويلة، أحد المهاجرين المصريين الذين التقيناهم، قال إنه اضطر إلى السباحة من الشاطئ ولمدة تتجاوز الدقائق العشر للوصول إلى قارب خشبي، ولذلك فلم يكن ممكناً بالنسبة له أن يحمل أي أمتعة، سوى جواز سفره الذي حمله في غلاف بلاستيكي بين أسنانه، وبعد وصوله إلى القارب الخشبي تم نقله إلى قارب صيد آخر ليكمل رحلته إلى إيطاليا.

لا يعرف مصطفى بأي اتجاه كان يتحرك قارب الصيد؛ إذ إنه كان ورفاقه قد تم تكديسهم في قاع القارب، أو ما يعرفه الصيادون باسم "الثلاجة". بعد أن توقف القارب، صعد الجميع إلى السطح ليجدوا قارباً آخر أكبر في انتظارهم، يصفه مصطفى بالـ"يخت"، وبعد أن انتظروا يوماً آخر على متن ذلك اليخت، انضم عشرات آخرون من المهاجرين القادمين على متن قارب صيد آخر، ليصل عددهم بحسب مصطفى إلى أكثر من 350 شخصاً، وتحرك الجميع يوم 15 أبريل/نيسان، في أول رحلة خروج من مصر خلال عام 2016، بعد توقف كامل لقوارب المهاجرين خلال الشتاء.

كان مصطفى يعتقد أنه يعرف ما سيلاقيه في رحلته، يعرف أنه سينطلق 3 أو 4 أيام في البحر، بقارب وضعه جيد، قبل أن يدخل في نطاق عمل الصليب الأحمر ضمن الحدود الأوروبية (يعتقد المهاجرون المصريون أن "الصليب" -كما يسمون هيئة الصليب الأحمر- هو الجهة التي تستضيفهم وتنقذهم، وهي معلومة ليست دقيقة في الغالب)، وحينها سيتم إرسال إشارات لطلب النجدة، حيث سيتم انتشالهم من على متن القارب ونقلهم إلى إيطاليا.



صورة جوية التقطتها طائرة عسكرية دنماركية لقارب مهاجرين مصريين قبيل إنقاذه

لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فقد استمر القارب في رحلته 12 يوماً قبل أن ينفد كل ما مع المسافرين من طعام ومياه، واضطر بعضهم إلى أن يشربوا من مياه البحر، في هذه الأيام، كان القارب على وشك الغرق مرات لسوء الطقس، ولم يكمل رحلته إلا بعد أن أصلح محركاته التي تعطلت بعضُ الصيادين المارين. يقول مصطفى: "لا يمكنني أن ألوم المهربين أو من يتعاونون معهم من سائقي القوارب، إنهم معنا، جاعوا وعطشوا مثلما فعلنا، ولو غرقنا في البحر فسيموتون معنا، لماذا لا يعيشون بسلام في أوروبا مثلنا إذاً؟".

يقول مصطفى إن المهربين يريدون لهم أن يصلوا بسلام، فلن يحصلوا على أموالهم إلا بعد وصولهم واستقرارهم في إيطاليا. "قمنا بدفع 5000 جنيه، وبقية المبلغ سيحصل عليه المهرب إذا وصلنا إيطاليا ولم يقوموا بترحيلنا"، يقول مصطفى موضحاً تفسيره لاهتمام المهربين بسلامة المهاجرين، رداً على سؤال عن سبب عدم إبلاغه عن المهربين وسائقي القوارب بعد وصوله لإيطاليا.

يحصل المهربون على نقودهم عن طريق أهالي المهاجرين، الذين يكتبون عقوداً على أنفسهم، ولا يتم الدفع للمهرب إلا بعد أن يصل المهاجر إلى إيطاليا بسلام، وبعد أن يتجاوز مرحلة الفرز الأولية؛ إذ لا يحصل المهرب على نقوده إذا تم ترحيل المهاجر فور وصوله، ولذلك يختار المهربون المهاجرين بدقة.

في اليوم الثالث عشر، وصل القارب إلى منطقة قريبة من الشواطئ الإيطالية، وهناك أرسل سائقه إشارة استغاثة، فيما قام الركاب الذين كان من بينهم العديد من النساء الأفارقة، وعائلتان مصريتان كاملتان على الأقل، بإشعال النار في بعض حاجاتهم، وملابسهم على سطح القارب، للإرشاد عن مكانهم. لكن من يسمع استغاثة الغارقين؟!

اقرأ التحقيق كاملًا هنا: 20 يوما في بحر الظلمات!.. رحلة "عربي بوست" مع قوارب المهاجرين المتهالكة في المتوسط

تحميل المزيد