هذا المقال جزء من تحقيق: "20 يوما في بحر الظلمات!.. رحلة "عربي بوست" مع قوارب المهاجرين المتهالكة في المتوسط"
أثناء رحلتنا مع سفينة إنقاذ اللاجئين أكواريوس، وأثناء إنزال المهاجرين الأفارقة الذين تم إنقاذهم في ميناء ميسينا بجزيرة صقلية الإيطالية، قابلنا عمر حويلة، المهاجر المصري الذي كانت له رحلة كبرى داخل أوروبا بعد رحلته الأولى في البحر.
هاجر حويلة من مصر عبر البحر قبل 3 سنوات، كان حينها في السادسة عشرة، كانت وفاة والده وتوقف عمله في قريته القرشية بمحافظة الغربية سبباً رئيسياً في قراره. حكى لنا عن رحلته الطويلة، والتي لم تختلف في الكثير من تفاصيلها عن رحلة مصطفى.
يعلم حويلة والمهاجرون المصريون جيداً أن الإيطاليين يرحّلون المصريين الأكبر من 18 سنة، ولذلك ترسل الكثير من العائلات أبناءها إلى إيطاليا قبل إتمام الثامنة عشرة؛ كي يتسنى لهم البقاء بشكل شرعي في البلاد.
كانت روما قد حاولت، على مدار السنوات الماضية، صياغة اتفاقات ثنائية مع دول الشمال الإفريقي، تقضي بإعادة المهاجرين القادمين من تلك الدول، وقد رُصدت حالات قامت فيها السلطات الإيطالية بترحيل المهاجرين بلا أي بحث أو تمحيص لحالاتهم.
لكن، ما حدث مع حويلة هو ما يحدث مع جميع المهاجرين تقريباً، يتم أخذ بصمات الجميع بمجرد وصولهم إلى إيطاليا، وأحياناً يتم ذلك في الميناء. لاحقاً، يتم توزيع القادمين على مراكز للإيواء، تتفاوت في مقدار الرقابة الحكومية التي تخضع لها، خاصة مع سماح الحكومة الإيطالية للأفراد والمؤسسات بتحويل المنازل أو المباني التي يمتلكونها إلى مراكز لاستقبال اللاجئين، بمقابل مالي يكفل للمهاجرين تغطية نفقات معيشتهم بشكل كامل.
لكن، لحويلة قصة مختلفة بدأها بعد أشهر من وصوله لإيطاليا.
الخروج من إيطاليا: بحثاً عن موضع آخر في الجنة!
عاش حويلة في صقلية أشهراً، بعضها في مركز يتبع عائلة إيطالية، وبعضها في مركز حكومي آخر بالقرب من باليرمو، قبل أن يقرر مع ابن عمه الذي تجاوز لتوه السادسة عشرة، والذي خاض معه الرحلة منذ بدايتها، وصديقين آخرين يبلغ عمر كل منهما الثالثة عشرة، أنهم بحاجة للخروج من إيطاليا، وقبل 4 أشهر من إتمام حويلة الثامنة عشرة، بدأ الأربعة رحلتهم إلى ألمانيا تحت قيادته.
يقوم الإيطاليون في مراكز الاستضافة بإعطاء المهاجرين نقوداً لبعض المتطلبات البسيطة كل فترة، بعضهم يحصل على 2 يورو يومياً، أو أقل من ذلك، ومن خلال تلك النقود وأخرى أرسلها لهم أهلهم من مصر، استطاع حويلة ورفاقه أن يجمعوا ما يكفي من المال لرحلتهم. البداية بحافلة تخرج من مدينة تراباني أقصى شرق صقلية، إلى العاصمة روما، ومنها ركب الجميع قطاراً لمغادرة البلاد، بتكلفة تذكرة تبلغ 170 يورو لكل شخص منهم. "في ذلك الوقت، لم تكن هناك الرقابة المشددة التي قد تجدها اليوم"، يحكي عمر عن إفلاته بلا أي أوراق هوية من محطة القطار الرئيسية في روما وانطلاقه نحو ميونخ.
عند وصولهم إلى الحدود الألمانية-النمساوية، أُوقف الأربعة بمعرفة السلطات النمساوية، وبعد يوم كامل، واحتجاز في أحد البيوت التابعة للشرطة، وأخذ بصماتهم لضمها إلى صحفهم الجنائية، سمحت السلطات بشكل غير مفهوم للأربعة بإتمام رحلتهم.
وصل الجميع إلى ميونخ، وبمجرد وصولهم إلى المدينة، تحدث أكبرهم، حويلة، مع أول شرطي قابلهم، وبلغة الإشارة وببعض الإيطالية التي تعلمها خلال إقامته وكلمات بسيطة من الإنكليزية، أفهم حويلة الشرطي أنهم لاجئون، جائعون، وكان من الواضح للعيان أنهم أطفال كذلك.
أحضر الشرطي للأطفال طعاماً وشراباً وأجلسهم داخل السيارة، قبل أن يتم نقلهم إلى مكتب الشرطة، ومنه إلى ما يقول حويلة إنه "فندق 7 نجوم"، لكنه على الأرجح مركز استقبال آخر أكثر تنظيماً ونظافة من المراكز التي أقام فيها حويلة بإيطاليا.
"كانوا يعطوننا 150 يورو شهرياً، بالإضافة إلى أكثر من 3 يوروات يومياً، اشترينا العديد من الملابس والأحذية، كنا سعداء للغاية"، يقول عمر حويلة متحدثاً عن فترة إقامته بألمانيا التي لم تطل أكثر من 4 أشهر. فعند إتمامه الثامنة عشرة، أعاد الألمانيون تقييم موقف حويلة، وعلم حينها أن عليه أن يكون في إيطاليا خلال يومين، قبل موعد الفحص الدوريّ للمهاجرين، وبما أنه قد أتمّ الثامنة عشرة، فإن عليه أن يكون موجوداً في محل أخْذ بصمته لأول مرة، وإلا فإنه سيكون عرضة للترحيل.
تحدث حويلة مع محامٍ للمهاجرين في ألمانيا، إلا أن الأخير أجابه بأنه إذا تقدم لطلب استئناف فسيخسر حتماً، إذ إن المحاكم الألمانية لا تقبل طلبات الاستئناف لمن تجاوز عمرهم الثامنة عشرة، إلا لمن جاءوا من مناطق نزاع، مثل السوريين المهاجرين، حتى لو كانت قد أُخذت بصماتهم في أي دولة أخرى. نصح المحامي حويلة بأن يهرب عائداً إلى إيطاليا؛ لأنه إذا ما تقدم بطلب وتم رفضه في ألمانيا، فقد يُمنع من دخول البلاد بالمطلق.
يحكي حويلة عن رحلة العودة بحماسة شديدة؛ إذ سار على قدميه 5 ساعات وسط غابات قرب برلين، التي كان قد تم نقله إليها بعد إتمامه الثامنة عشرة، كي يصل إلى محطة القطارات المركزية، يريد أن يصل إلى ميونخ.
استقل حويلة القطار المتوجه إلى ميونخ بعد عناء بسبب عدم معرفته اللغة، وبلا أي نقود، استطاع الشاب أن يهرب بمساعدة بعض الركاب الذين أخفوه تحت أقدامهم ضاحكين عند مرور محصّل التذاكر. وصل حويلة إلى ميونخ، ومنها تواصل مع ابن عمه الذي لا يزال هناك، حيث تخفى إلى داخل مركز الاستقبال، ليستحمّ وليستريح ساعات قبل أن يكمل رحلته إلى إيطاليا.
يقول حويلة إنه خلال الأشهر الأربعة التي قضاها في ميونخ، كان قد تعرّف على رجل أعمال مصريّ يقيم بالمدينة الصناعية، ولذلك عندما أراد حويلة أن يكمل طريقه إلى صقلية، تواصل مع رجل الأعمال، الذي قام بحجز تذكرة له إلى روما، وهناك تكلم حويلة مع أخيه في مصر، الذي طلب من صديق له يقيم بميلانو أن يحجز تذكرة لأخيه عبر الإنترنت إلى صقلية.
"وصلتُ من محطة القطارات مباشرة إلى مقر الشرطة المسؤول عن المهاجرين"، يقول حويلة الذي لم يُقرّ أمام الضباط الإيطاليين بأنه سافر إلى ألمانيا، رغم أن المعلومات المتاحة على الشبكة الأوروبية أمام الضابط تؤكد خروج عمر من إيطاليا ومروره بالنمسا وألمانيا، لكن مع إنكار الشاب، لم يجد الضابط بداً من أن يجدد لحويلة تصريح إقامته في إيطاليا.
ومنذ ذلك الوقت، ولمدة تتجاوز 11 شهراً، أقام حويلة في منزل عائلة إيطالية، ساعدته في الحصول على الإقامة الإنسانية التي تمتد سنتين، قبل أن يحدث خلاف مع مالكي المنزل إثر مشادة كلامية، يقرر على أساسها الشاب أن يرحل، لكن مع ذلك، يؤكد حويلة أن العائلة التي استضافته لم تسئ معاملته في أي من الأوقات التي قضاها هناك.
بعد رحيله من المنزل، عاش حويلة بلا منزل لأيام، قبل أن يدله بعض أصدقائه على المركز الإسلامي في ميسينا، والذي قرر المسؤول عنه، رجل الأعمال الإيطالي من أصل مصري محمد رفعت، أن يستضيف الشاب في غرفة ملحقة بالمركز، أعلى المسجد.
بيد أن عملية استضافة اللاجئين في إيطاليا لا تخلو من التربّح، وليس أصحاب مراكز الاستقبال كلهم مثل العائلة التي استضافت حويلة، أو المصريين الذين ساعدوه! فقد كشفت تحقيقات السلطات الإيطالية عن شبكة فساد ضخمة ضمت مسؤولين حكوميين ورؤساء بلديات، ومن ضمنهم مسؤولون في العاصمة روما. كانت القضية شديدة الوطأة؛ إذ ظهر فيها استغلال المسؤولين أموال الدعم الموجهة للاجئين واختلاسها، وفي المقابل حرمان آلاف اللاجئين من حقوقهم الأساسية في مراكز الاستقبال، وأحياناً اختلاق وجود لاجئين؛ من أجل اختلاس مخصصاتهم وسرقتها. القضية التي عُرفت باسم "مافيا كابيتال"، شهدت اعتقال عشرات السياسيين والمسؤولين والتحقيق مع الكثيرين غيرهم.
اقرأ التحقيق كاملًا هنا: 20 يوما في بحر الظلمات!.. رحلة "عربي بوست" مع قوارب المهاجرين المتهالكة في المتوسط