وأنا أتبادل أطراف الحديث رفقة أحد الأصدقاء فاجأني قائلاً: "إذا ما فكرت في الزواج يوماً ما سأختارها فتاة من قرية نائية بعيدة جداً، لا تفقه شيئاً، فتاة تكون بريئة براءة الصغار، طاهرة، عفيفة، نقية القلب والقالب.. تلك ستكون خير زوجة وأم لأبنائي، فيكفي أن تهتم بي رفقة صغاري لأقدم لها حياتي هدية.. فبعض الفتيات ممن يدعين الوعي، تحول تحررهن إلى انحراف، خاصة في وقتنا الحالي.. باختصار أريدها أنثى دون سوابق!".
في وقتنا هذا أصبحت العفة كنزاً لا يقدَّر بثمن، بل نادرة لتوجد وتصان خاصة في خضم وجود العابثين الذين لا يهمهم سوى إرضاء رغباتهم وتحقيق نزواتهم، بل وإشباع شهواتهم على حساب الآخر.
لا تقتصر العفة والتحصين على الفتاة فقط لتظل محافظة على شرفها، فلا تكون فريسة سهلة للوقوع في شباك متآكلة تزينها عبارات الحب والدلال، لكن عمقها يختزل جل معاني المكر والخداع، أو ضحية تطالها وصمة العار ونظرات تلك وذاك التي تعرب عن الاحتقار والدونية والاستصغار، أو ساذجة تنطلي عليها الألاعيب والأكاذيب العظام، بل حتى الفتى يحمل على عاتقه جزءاً من المسؤولية، فمن أوجب واجباته أن يلتزم حدوده عوض ممارسة هواية التسلية بمن هن ساذجات، يعتقدن أن الحب صور في كائنات شبهت بالذئاب، فبمجرد لفظ كلمات الود المزيفة ينسلخن عن التفكير ليسقطن في دوامات لا تكاد تفك طلاسمها.
يريدونها أنثى دون سوابق، وتناسوا أن بعد السابق لاحقاً، سابقاً في إغرائهن ومس سمعتهم وتدنيس شرفهن، لاحقاً بالارتباط بواحدة منهم ظناً أنه الفائز الدّهيّ، إلا أن السحر انقلب على الساحر فسقط في سحق نياته وسوء أعماله.
يريدونها فتاة محجبة، منعزلة عن العالم الخارجي لا تربطها علاقات اجتماعية لا من قريب ولا من بعيد، لا تفقه شيئاً في أمور الحياة فقط علينا أن تكون أماً حلوباً تنجب الأطفال وتعتني برب الأسرة، بل البعض يختارها أمية، ويشترط عدم عملها وعدم مخالطتها العامة.. إلخ.
لكن متى كان هذا النوع من التعامل النمطي الذي يكاد يشبه "الحظر الصحي"، وسيلة لتربية الفتاة على مبادئ العفة والفضيلة؟ أيعقل أن يعيد التاريخ نفسه، وأن يكون القرن الواحد والعشرون عصر الانغلاق والحد من الحريات عوض تقنينها وتأطيرها والسمو بها؟
لن ننكر أن مجتمعاتنا تعيش طفرة نوعية تكاد توصف بعصف ذهني يسعى لتحقيق تغيير جذري، حتى إن البعض انسلخ عن قيمه واتبع القافلة متجاهلاً كل ثوابته، لتظل التربية جوهراً ثابتاً يرسخ لدى الفتى والفتاة على حد سواء قيم الاحترام والإخاء، مسطرة الحدود في التعامل والحديث وجل العلاقات الاجتماعية، فكل منهما يعتبر الآخر متمماً له في إطار أخوي لا غابوي، يهدف كل طرف لنهش الآخر واستغلال براءته تحت مسمى الحب؛ لبلوغ نزوة عابرة قد تؤدي حتماً إلى ما لا تحمد عقباه.
لن أغفل جانب المجتمع وما له من تأثير مباشر، من صداقات واختلاط وتقليد أعمى، فكلها عوامل من شأنها أن تؤثر على منحى التربية، لكن ليست أي تربية، فتلك التي تقوم على أسس ثابتة، وترسخ في نفوس الطفل المبادئ منذ الصغر، وكأنها محفورة على حجر لا يكاد يزول أثرها رغم مرور السنين وتراكم الأزمنة الغابرة، تلك التربية التي لا تزحزحها مؤثرات خارجية ولا مغريات عبثية، تربية عن قناعة أننا خلقنا ليحترم بعضنا بعضاً، لا أن يتطاول أحدنا على الآخر، فكل يلتزم حدوده المعقولة، محافظاً على كرامته وكرامة غيره، ولو من باب الإنسانية، فالأحداث تمر، لكن الأثر يظل، وكل تصرف اعتباطي في الحاضر قد تكون له مخلفات في المستقبل عاجلاً أم آجلاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.