ثم أصبح كاتباً عظيماً

فلماذا لا يكون الكتاب كذلك.. فأفضل طريقة لتعلم الكتابة هي الكتابة نفسها

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/06 الساعة 01:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/06 الساعة 01:09 بتوقيت غرينتش

"صممت أن أشق طريقي ككاتب، دون أن يشغلني شيء آخر حتى نهاية حياتي، والهدف الأول الذي وضعته أمامي أن أصبح قصاصاً مقروءاً خلال السنوات العشر التالية.. اشتريت بالنقود التي وفرتها من العمل في معصرة الزيت آلة كاتبة مستعملة.. هي كل ما أملك"، الاعتراف السابق اقتباس من أغرب السير الذاتية التي يمكن أن يكتبها كاتب نالت أعماله شهرة هائلة، ورُشح على أساسها لأهم الجوائز العالمية (نوبل) وعُد واحداً من الروائيين الخمسة العظام في تاريخ أميركا.

إنه الكاتب والروائي الأميركي أرسكين كالدويل، الذي خلد تفاصيل رحلته المثيرة نحو آفاق الكتابة والتأليف في كتابيه: "اسمها تجربة" و" كيف أصبحت روائياً؟". وتجربة كالدويل من أكثر التجارب الأدبية ثراء وإلهاماً بالنسبة لكاتب ناشئ تراوده أحلام الكتابة وتغريه متعة الخلق الأدبي دون سائر المتع.

يحدثنا كالدويل في سيرته الذاتية الحافلة بالمواقف المؤثرة عن كثير من اللحظات الصعبة التي لا يمكن أن يمر بها كاتب دون أن تستبيح مشاعر الإحباط كيانه وتعصف مرارتها بشعلة الطموح المتقدة بداخله.

لكن وبما أن كالدويل كان صريحاً مع نفسه منذ بداية المشوار، فإنه لم يجد صعوبة في التغلب على أقسى الظروف وأكثرها افتراساً لثقة الإنسان في نفسه وإيمانه بذاته، حيث عبر عن هدفه بكل وضوح وثقة: "أحب كتابة القصص والروايات كما يحب البعض تربية الماشية أو لعب الكرة أو ممارسة القانون، ولأنني لا أكون سعيداً بممارسة أي شيء آخر، وأردت أن أجعل من الكتابة مهنتي وأن أنجح في ميداني وأكسب عيشي عن طريقها، وبالضبط كأي مهنة أخرى أو تجارة يمارسها الناس.. ووعدت نفسي بأن التحاقي بأي وظيفة لا تتعلق بما عزمت عليه سيكون مؤقتاً ومن أجل أن أظل حياً فقط، ولكي يضمني سقف تحته وتسترني هدمة معقولة".

تمثلت مشكلة كالدويل الأولى مع الكتابة في امتناع المجلات والصحف عن نشر أعماله، فالعشرات من القصص التي يرسلها إلى مختلف الجرائد والمجلات المتخصصة لم تحظَ ولا واحدة منها بفرصة النشر، وكانت ميزانية طوابع البريد تستنزف موارده المالية الشحيحة، وكان عليه أن يدبر مصروفه اليومي بنفسه، فسعى إلى إيجاد عمل يؤمن له حاجته من الطعام ومن طوابع البريد؛ لكي يرسل المزيد والمزيد من القصص التي لم تنجح أي منها في إقناع محرر ما بجدوى نشرها، إن هدفه الأساسي الآن هو: "اختراق مقاومة هيئة تحرير مجلة سكرنبرز"، وهي إحدى المجلات التي يواظب كالدويل على إمطارها بقصصه.

لقد كان محظوظاً عندما وجد عملاً في إحدى الصحف كمراجع للكتب، كانت المسؤولة عن الصحيفة ترسل إليه رزمة من الكتب كل أسبوع ليكتب مراجعة لها في الصحيفة، ثم اكتشف بعد حين أنه لن يتقاضى مالاً لقاء ما يقوم به، لكن بإمكانه أن يحتفظ بالكتب عوضاً عن ذلك، وهي الكتب التي أمنت له مورداً مالياً لا بأس به حيث كان يبيعها بربع دولار للكتاب الواحد.

في الشتاء تتضاعف معاناة كالدويل، ويصبح معها الحفاظ على عادة الكتابة -خصوصاً تلك التي تبدو دون طائل يُذكر – مهمة شاقة ومنهكة، يجب أن يحظى بشيء من الدفء وبعض الطعام؛ ليتمكن من الصمود أمام الآلة الكاتبة، فكان يستعد للشتاء من خلال تقسيم يومه الصيفي إلى ثلاثة أقسام: ففي النهار يقوم بقطع الأخشاب، وعند الغروب يقوم بزراعة البطاطس، وفي الليل يشرع في الكتابة حتى أصبح النوم -حسب تعبيره- رفاهية غير مقدور عليها، وعند حلول الشتاء يكون لديه ما يكفي من الخشب للتدفئة ومن البطاطس للطعام، لكن في بعض الأحيان ينفد مخزونهما قبل نهاية موسم البرد والجليد.

يقول كالدويل: "لم يكن في الغرفة تدفئة، وما زال التقرح في يدي وقدمي نتيجة لعضة الصقيع خلال الشتاء، ووصلت الآلام لدرجة جعلتني أشكو إلى المالكة قلة التدفئة، فشكت لي بدورها ضجة آلتي الكاتبة في الثانية أو الثالثة صباحاً".

اهتدى كالدويل إلى حل غريب لمشكلة البرد والصقيع، فكتب يقول: "بدأت آخذ رحلات بالباص تستغرق عدة أيام كل مرة، فالباص المكيف كان دافئاً ومريحاً، وأثناء النهار وعلى الطرق السريعة الناعمة في الريف كنت أكتب بالقلم الرصاص، وفي الليل أتوقف في فندق وأواصل الكتابة على الآلة الكاتبة".

بعد سنين من عناد رؤساء التحرير، بدأت أخيراً قصص كالدويل تجد لنفسها فسحة في صفحات الجرائد والمجلات، كان ذلك إنجازاً عظيماً بالنسبة له، وكانت فرحته لا توصف عندما حدثه أحد رؤساء التحرير عن ضرورة مناقشة حقوقه المالية لقاء كتاباته المنشورة.

في الحقيقة، لكالدويل خيار وحيد إزاء إصرار رؤساء التحرير على رفض قصصه، وهو بالاستمرار في إرسال المزيد من القصص، لقد كانوا يبعثون إليه بخطابات تحثه على البحث عن عمل آخر غير كتابة القصص؛ لأن عناده قد يجعل فشله المحقق صعباً على التحمل.

كما قال له أحد رؤساء التحرير الغاضبين من إصراره المزعج على الكتابة دون أن يتمتع بما يكفي من الموهبة، بدأت العروض من دور النشر والمجلات الأدبية تنهال على كالدويل، والعوائد المالية في ازدياد مطرد، أصبح بإمكانه السفر وارتياد الفنادق الفخمة والمطاعم الراقية.

لاقت روايته "طريق التبغ" نجاحاً باهراً، وعندما حولت إلى مسرحية كانت الأكثر عرضاً في تاريخ المسرح الأميركي؛ حيث عرضت لأكثر من سبع سنوات، حقق كالدويل هدفه، وأصبح كاتباً عبقرياً ليس من السهل على دور النشر أن تظفر منه بعقد، ولو أجزلت له في العطاء.

لقد غدا ذلك الشاب البائس الذي لم يكن يملك سوى آلة كاتبة مستعملة، كاتباً مشهوراً ذائع الصيت في أرجاء الولايات المتحدة والعالم.

محطات كثيرة مر بها كالدويل في مساره الأدبي الحافل بالإخفاقات، قبل أن ترسو سفينته على شاطئ النجاح والتألق، الطموح بذرة يطمرها الإنسان في أعماق كيانه، يسقيها كفاحاً وعطاء حتى تستوي على سوقها، شجرة باسقة وارفة الظلال.

يحكي لنا كالدويل عن صحفية مغمورة عمل معها في إحدى الصحف، ذات يوم عبرت لرئيسها عن رغبتها في ترك العمل؛ لأنها تريد أن تكتب كتاباً خططت له منذ مدة، استقالت من الصحيفة وبعد عشر سنوات أهدت إلى العالم رائعتها العظيمة " ذهب مع الريح" إنها الروائية مارغريت ميتشل.

رحلة النجاح وامتلاك ناصية القلم تبدأ بالمكابدة المضنية وتنتهي بالتألق والريادة. الكتابة عملية إحياء وإيجاد ونفخ للروح في تضاعيف الكلمات والعبارات، وهي عملية يحفها الألم والمعاناة، هل توجد ولادة دون مخاض عسير؟ وسيرة أرسكين كالدويل تجسيد أمين لهذه المعاني.

يقول كالدويل في كتابه كيف أصبحت روائياً: "هناك دائماً موقع لكاتب جيد آخر على القمة، والطريقة المثلى للوصول إلى هناك أن تبدأ من القاع"، وعندما طُلب منه أن يسدي نصيحة لكاتب شاب، قال: "علم نفسك الكتابة بالدرجة نفسها التي يعاني فيها أي فرد ليصبح ناجحاً في ميدانه من خلال التمرين، فالأطباء والمحامون والمهندسون وعمال الطباعة لا بد أن يتعلموا بالخبرة، فلماذا لا يكون الكتاب كذلك.. فأفضل طريقة لتعلم الكتابة هي الكتابة نفسها".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد