في زمن تملأه الأرواح العليلة والعقول المتعبة التي حنَّطها الزمان في حضرة المكان، جلست المتمردة تتأمل وجوه الناس، صخب الشارع، وأصوات السيارات، هذا الضجيج الذي أصبح من فرائض يومياتها، اعتادت على سماعه كاعتياد صياد على هدير الأمواج.
نظرت إليها من جميع الزوايا، حاولت جاهدة إيجاد منظور أحدد منه نظرتي إليها، فلم أستطِع، فصورتها في كياني ترفض أن تختزل في زاوية، نظراتها عميقة، تميل إلى القسوة تارة وإلى العنفوان تارة أخرى، يروق لي مظهرها الرائع في بساطته، أتساءل كيف لامرأة غامضة ومركبة مثلك أن تميل إلى البساطة؟
لم يعد يربطها شيء بأرضها، فحبذا لو تملك الجرأة لتمزق شهادة ميلادها، وتقطع شرايينها لإيصالها بأرض أخرى، لم تعد تؤمن بفكرة الوطن، فلطالما أحبت وطناً لم يبادلها إلا الضياع واليأس، متمردتي امرأة حرة، لا شيء يجبرها على الطاعة حتى الوطن؛ لأن الوطن الذي يربط حب الأرض بطاعة الحكام ليس بوطن، فاليد التي تقاوم سيف الطاعة إن لم تقطع، تقبض على النار مرتعشة، نار تحرق من يتمرد عليها؛ لأنها قبل أن تكون مجرد نار فهي نار مقدسة.
هوسها بمتمردها هوس طفولي متملك، يذكرها بذلك الرجل الشرقي الأسطوري الذي عرف بالعفاف وقلة الكلام، ويعجبها جانبه الغربي المتشبع بالفكر المتحرر من جميع القيود، يجلسان بين مئات الأشخاص دون أن ينبسا ببنت شفة، أنظر إلى وجهيهما فأضيع بين حقيقة المنظور وخيال المشهد، أرى فيهما أول فصل وآخر فصل من رواية الحياة على هذه الأرض.
دقت أجراس الكنائس، ارتفع صوت الأذان من المساجد، وأنغام التبريكات من المعابد، ذهب الناس إلى الصلاة ومتمرداي ضائعان في معابد الأرض الموحشة، يتحسران على الظلم الذي يكتسح الأرض، فشرائع البشر تغزو هذا الوطن أكثر من الشريعة الإلهية، فكل مَن يتنفس هواء هذا المكان هو سجين لقوة صامتة وضعها القدر بين شياطين خرساء، كانا يصليان في مكانهما للثورة، للسلام، للكرامة، وللحب، ضارعين إلى السماء لتزيل خيال الموت الصامت من قلبيهما.
ما أصعب الضياع بين خيال واقعي وواقع كارثي في خضم لحظات ملتقطة بدقة مسترسلة! لا نعلم إن كانت لحظاتنا واقعاً أم خيالاً، ما نكاد نمسك بها حتى تضيع من بين أيدينا، ونحن عاجزون كل العجز عن المقاومة، صراع أبدي يجعلنا رمزاً من رموز الحياة على هذه الأرض، حلماً كان أو هاجساً، فهو واقع في خيالها وهي خيال في واقعه، تمر اللحظات ويبقى كل شيء في مكانه، فليست الحياة إلا رقعة شطرنج يحرك بيادقها المجهول المقدس.
أتذكر وداعَكما كل ليلة، تتعانقان كأنه لقاؤكما الأخير، في تلك اللحظة، أحس من بعيد وكأن الأرض كفَّت عن الدوران، يتوقف الزمن، يعم الصمت، يمتلك أحدكما الآخر لدقائق، تتمردان على كل ما يمنعكما عن بعض.
بعد وداعكما، عاد كل شيء إلى مكانه، صخب الشارع، وجوه الناس، أصوات السيارات وحتى دوران الأرض، حينئذ أدركت أنها لم تكن إلا لحظة.
عاد كل منهما إلى واقعه، حاملاً خمرة الحب، عطر الثورة، وروح التمرد، بعد كل وداع، يلعن ناموس الحب قدركما، فهو لا يرضى بعشق مقيد، حبيس لعقد مجتمع لا يرى فيكما إلا الخطيئة.
ثُورا على نفسيكما أولاً، تمردا على أرواحكما، فنحن ننتظر ساعة المخاض منذ زمن، لا تكونا يأساً ولا أملاً، قاوما واعصيا ولا تنحنيا لمجتمع همه الوحيد أن يذبحكما بتخلفه.
حان وقت رحيلي، فما أكبر الفرق بين الواقع والخيال، فليبقَ خيالي لكما، وليبقَ غموضكما لي.
فسلام لمن احتسى نخب الثورة فتنفسه وأحياه بعد موت دام سنوات، وسلام لمن خان الواقع وكان لخياله وفياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.