تعج صفحات التواصل بالحِكَم والعِبَر التي يمكن التوقف عندها، والاستفادة منها في حياتنا اليومية المليئة بالمواقف، وما إن تُنشر هذه المقولات حتى تنهال عليها الإعجابات والمشاركات، وتحظى بكم وافر من التفاعل لقربها من قلوب الناس، وتأثيرها فيهم.
صحيح أن بعض هذه العِبَر مقتبسة من كلام لفلاسفة وعظماء كبار، ولكن هذا لا يعني أنها سليمة مائة بالمائة، كما قد يكون هناك صعوبة في إسقاطها على حياتنا اليومية، سوف نأخذ في هذا المقال نموذجاً من هذه المقتبسات، ونحاول أن نبحث عن نقاط ضعفها.
على سبيل الذكر لا الحصر، المقولة الشهيرة التي قد لا تكون هناك صفحة على وسائل التواصل لم تنشرها، ومفادها: "سئل حكيم: لمَ لا ترد إساءة من أساء إليك؟ فأجاب: ليس من الحكمة أن تعض كلباً عضك".
هذه المقولة هي واحدة من بين الكثير التي يتم تداولها، ولوهلة يشعر من يسمعها بأنه أخطأ عندما اتخذ ردة فعل معينة لحادثة مشابهة وقعت معه، ثم يستخلص عبرة من هذه المقولة، بأنه تسرع وكان يجب عليه التريث في ردة فعله تلك تجاه ذلك الشخص الذي أساء إليه.
هناك إشكالية في مقولات من هذا النوع، ولعل التوقف عندها قليلاً يجعلنا نكتشف الثغرات التي تجعلنا نعيد التفكير بها، ومن هذه الأسباب:
أولاً: إشكالية المقارنة
مقولة كهذه تصنع مقارنة مفترضة بين طرفين؛ الأول هو المسيء، والثاني هو الذي وقعت عليه الإساءة، ثم تستعين المقولة بتشبيه، فيكون المسيء كلباً، والذي تقبل الإساءة إنساناً، فعملية سرد المثال كقصة بأبطال كهؤلاء جعلت القارئ مجبراً على الاصطفاف مع الحكيم، كي لا يكون كلباً، أي أنه تم تغيير الشخصيات الحقيقية إلى أخرى وهمية تستميل القارئ لصالحها، وكأن القارئ بات مجبراً على أن يكون كلباً أو حكيماً، وهذا ما أحدثته إشكالية المقارنة المفترضة، فليست دائماً المقارنة سبباً وجيهاً للإقناع، فإذا كان الأمر كذلك وجب على مَن يُشبه بالأسد لشجاعته أن يغضب من هذا التشبيه؛ لأن الأسد أيضاً حيوان له صفات الحيوان البعيدة كل البعد عن الإنسان، لكن يتم التغافل عن باقي صفات الأسد والإبقاء على صفة واحدة، وهي الشجاعة.
ثانياً: عدم الشمولية
مشهد كهذا الذي جمع بين الحكيم والكلب، طرح نقطة واحدة واجتزأ الباقي، فهو طرح قضية أن يتحول من يرد الإساءة إلى كلب، وتجاهل الأجزاء الأخرى من القصة، فمثلاً عندما نتوقف قليلاً مع القصة ونطرح على أنفسنا السؤال: "أليس السكوت عن الحق يجعل صاحب الباطل يظن أنه على الحق، فيتمادى"؟، إذاً لماذا نفترض فقط جانباً واحداً ونتجاهل الجوانب الأخرى التي تعطي الصورة شمولية واضحة، دون الوقوع في فخ الاجتزاء الذي ينظر إلى المشهد من زاوية واحدة متجاهلاً الظروف التي تحيط بالمشهد.
الأسباب المذكورة لا تعني بالضرورة عدم الأخذ بنصائح مشابهة، على العكس تماماً، لكن عند تمحيص مقولة من هذا النوع نستطيع أن نفهمها أكثر، ونعرف إذا كانت فعلاً قابلة للإسقاط على المواقف التي تمر بنا في حياتنا أم لا، قليلاً أو كثيراً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.