من المؤسف حقاً أن تجد كثيرين ممن ينتسبون للإسلام وكتابه ونبيه بعيدين أشد البعد عن روح القرآن، فيما يخص بالذات آداب الحوار مع المخالف، سواء أكان الخلاف دينياً أو عقدياً أو طائفياً أو مذهبياً أو غيرها، فنجد أن من يصدع رؤوسنا في كل حين برفعه لشعار أهل السنة والجماعة وانتسابه لها ودفاعه عنها لا يتأدب ولا يلتزم بخلق النقاش والحوار، وجواباً لمن قد يتساءل:
لماذا يا أخي تقتصر الحديث هنا عمن ينتمون لأهل السنة والجماعة أو بالأحرى من يزعمون ذلك؟ أقول: لأنه لا يعنيني أصالة من لا يرفع شعار أهل السنة والجماعة، سواء تأدب أو لم يتأدب، سب أو لم يسب، إنما يعنيني من يرى نفسه تابعاً لسلف الأمة، وهو لا يتأدب بأدب القرآن والسنة في الحوار ومجادلة المخالفين؛ إذ إن الله تبارك وتعالى في غير ما آية يعلمنا معشر المسلمين ومعشر أهل السنة الجماعة كيف نناقش ونحاور المخالف في قمة الأدب وقمة الرقي الحواري، ونفس الشيء إذا ما نظرنا كيف حاور رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- المعارضين للدين، والغريب أن هؤلاء لهم قدرة عجيبة على استحضار عشرات النصوص عن شتى الآداب (آداب الطعام، والنوم، والجلوس والاتكاء والانتعال، واللباس والسفر، والجماع، ودخول البيوت والخروج منها…)، وغيرها من الآداب التي لو سألت أي واحد منهم لأغرقك فيها بنصوص القرآن والسنة.
وإن ما يستحق أن نقف عنده وقفة تعجب وتساؤل هو كيف لهؤلاء أن يستحضروا كل هذه الآداب الشرعية المتنوعة بكل يسر ودون عناء، ويحثوا الناس على فضل مَن تأدب بها، في حين أنهم -إلا من رحم الله وقليل ما هم- لا تجدهم أبداً يستحضرون النصوص المتضمنة لآداب الحوار، التي جادل الله بها مَن هم على غير ملة الإسلام كما سيتبين؟! وحتى يتحقق كل منا من صدقية وأحقية الكلام الذي سبق ذكره، فبلا شك لا أحد ممن يتابع باستمرار ما يحدث في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، ستغيب عنه بعض التعليقات اللاأخلاقية، فعلى سبيل المثال لا الحصر دوّن أحد الصوفية تدوينة يعبر فيها عما يراه وما يذهب إليه، أي ما يقتنع به، فيسارع ويتسابق الإخوة المنتمون لأهل السنة والجماعة والمدافعون عن قدسيتها إلى الطعن في شخص الصوفي، صاحب المنشور، من باب المسارعة في الخيرات، فبدل أن يناقشوا الفكرة ويردوا على ما يرونه ضلالة بالدليل، يردون بالسب ونعت السوء والطعن في صاحب الفكر بدل فكره.
وحتى أكون منصفاً ينبغي أن أوضح أن هؤلاء المنتمين إلى أهل السنة والجماعة على ثلاثة أصناف: الصنف الأول يجادل بأدب وهم قليل فيرد الكلام بالدليل والحجة والبينة ويكتفي بذلك، والصنف الثاني يرد الكلام بالحجة ممزوجة بقليل من السب والاستهزاء والتحقير للشخص لا لفكره، فتكون حجته موجهة للفكر واستهزاؤه موجهاً لصاحبه، إذ لا يحتمل الصنف الثاني الرد دون استهزاء وتحقير للمخالف، وفي كثير من الأحيان ما يدَعون الحجة ليكتفوا بالاستهزاء، أما الصنف الثالث والأخير وهو الصنف الذي لا شك أنه مريض نفسياً ومتعطش للسب والطعن واللعن، واسأل أي طبيب نفسي له خبرة ودراية بمجاله، كيف تقيم شخصاً يسب ويطعن كل من يخالفه حتى وإن كان في مسائل هي محل خلاف عند العلماء وكثيرة ما هي؟ سيقول لك حتماً هذا الإنسان مريض نفسياً، ويحتاج في أقرب وقت إلى علاج أدوية حتى يهدأ، ثم تتم إعادة برمجته قرآنياً، إذ يستحيل أن تجد شخصاً يتلذذ بالطعن في الأشخاص ويصف إخوانه ممن يخالفونه فيما يعتقده بمختلف الأوصاف اللاأخلاقية واللاقرآنية واللانبوية.
ومما يدمي القلب ويحزن الصدر أن هؤلاء هم من يمثلون الإسلام، ومن يعكسون صورة الإسلام المشوهة البعيدة عن التسامح والخلوة من الرحمة والمجردة عن المحبة، وهذه الأزمة المغرِقة هي بلا ريب ما يلاحظه كل من يملك طوق النّجاة القرآني والإنساني ممن يقرأ أمثال هذه التعليقات التي تتجلى فيها ثقافة الكراهية والإقصاء والحقد والبغض، والأنكى من هذا كله حينما يكون هذا الإقصاء يتقرب به إلى الله، وهذا البغض يكون بغضاً في الله، ومما ينبغي أن يعلم أيها القارئ(ة) الكريم(ة) أن الأصناف الثلاثة التي ذكرناها آنفاً هي تحت رعاية أشخاص راشدين، ومنهم أهل الفكر والذكر، حتى لا يظن أحد أنهم من ذوي المراهقة أو ما بعد المراهقة بقليل Post-adolescence من المتعالمين والمتفيهقين، فهذه أزمة تشارِك فيها مختلف الأعمار من الذين ينتمون إلى أهل السنة والجماعة، ويتحدثون باسمها، ويغضبون لها، وينفجرون في وجه من أخرجهم منها، وليس الصوفية بمختلف انتماءاتهم العقدية والشيعة بتعدد فرقها خارجين عن أحد الأصناف الثلاثة، فهذا المرض الذي ورثناه بسبب بعدنا عن هدي القرآن والسنة، رغم توهمنا أننا من أهلهما، إنما هو مرض لا يمكن التخلص منه إلا بثلاثة أمور: أولها أن نتهيأ نفسياً وروحياً حتى تصبح لنا القابلية للعمل بآداب كتاب الله وسنة رسول الله. ثانيها ألا نجعل من أقوال بعض العلماء ممن يطعنون ويحتقرون عملياً المخالفين من أهل القبلة وغيرهم مرجعاً لنا نبرهن به على سوء أدبنا في الحوار. ثالثها أن نعيد الإمعان في القرآن، ونتدبر الآيات التي حاور الله -تعالى- فيها المخالفين لهدي الإسلام.
وأختم بالقول: من الضروري أن نختلف، لكن اختلافنا مع من يخالفنا في ما يراه ينبغي أن يتم بأدب ونرد عليه بأدب، وما أعظم الأدب الذي تفتقر إليه الأمة في غالب نقاشاتها. فلا يحملنكم فكر الشخص على الطعن في شخصه أياً كان، فالله تبارك وتعالى خاطب المشركين والمخالفين لهديه من أهل الكتاب وغيرهم بأدب دون سب؛ إذ يقول: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله"، وأخبرنا الله بما نقول إذا تولوا وأعرضوا فقال: "فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فأمرنا -سبحانه- أن نقول لهم إذا أعرضوا إنا مسلمون، لا أن نحتقرهم، وأمرنا كذلك أن نجادلهم بالتي هي أحسن، أي أن نناقشهم في دينهم بالكلام الطيب الذي يحببهم في الدين، لا الذي ينفر، كما هو حال نوعية الخطاب الذي يوجهه أهل السنة لإخواننا الكتابيين، وكل هذا الأدب الحواري أمرنا به مع من هم على غير ملتنا، فكيف بمن هم من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله؟! نسبهم ونطعن فيهم وهلم جرّا، فلنتأدب بآداب القرآن وآداب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"، والأدب في الحوار من أصول الأخلاق التي في الكتاب والسنة، والتي يدافع عنها كل من يحارب الضلالات والبدع فنقول الأدب أيضاً من السنة، فمن شاء أن يتأدب امتثالاً لقول ربه واقتداء بنبيه فهذا قد حمل حقاً لواء السنة الذي يرفع اليوم، وعليه غبار من سوء أدب الاختلاف، ومن أبى فليصنع ما شاء، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت، وأقول لمن يقع عليهم السب: لا تقابلوا السب بالسب، لا تقابلوا السيئة بالسيئة، وقابلوها بالحسنة التي هي من جماليات الدين وروح الأخلاق القرآنية والمحمدية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.