على الرغم من تأكيد نائب الرئيس الأميركي على الالتزام بالدفاع الجماعي عن حلف الناتو، إلا أن التفكير الغالب في مؤتمر ميونيخ للأمن تشوبه حالة من الجمود والذعر.
التقى القادة الأوروبيون مايك بنس وسط حالة من الخوف في ميونيخ، السبت 18 فبراير/شباط 2017، وذلك في أول فرصة لتقييم نهج القيادة الأميركية الجديدة تجاه الدفاع المشترك في وجه التهديد الروسي المتزايد في نظر الكثيرين، حسبما أشار تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
ولفت التقرير إلى أن الإشارات باتت مختلفة ومحيرة بالنسبة للأوروبيين منذ فوز دونالد ترامب بالانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
ففي بادئ الأمر كانت إشاراته حماسية تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يشوبها بعض الاستخفاف بالناتو. وفي الآونة الأخيرة، بدأ في اتباع سياسة معاكسة على كلتا الجبهتين.
وأخفق نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، الذي شرع في أول زيارة له إلى أوروبا بعد توليه المنصب، في تهدئة تلك المخاوف في الخطاب الذي ألقاه يوم السبت في مؤتمر ميونيخ للأمن.
وبدلاً من ذلك، ترك بنس بعض حلفائه الأوروبيين في حالة من الحيرة والارتباك، والغضب، حيال انتقاده للإخفاق في الأداء بفعالية في التحالف الدفاعي، وكذلك اهتمامه القليل جداً بمستقبل الاتحاد الأوروبي. الأمر الذي أثار القلق من الاعتداءات الروسية على أوكرانيا التي تعد شريكاً للناتو، والتخوف من توسع الممارسات الروسية مع دول أعضاء بالحلف.
الدفع أو الغزو
وقابل الحضور، الذي كان يتكون من قادة وطنيين ووزراء دفاع وخارجية وبعض الشخصيات الحكومية الكبيرة الذين يفترض أنه من الناحية الأدبية يجب أن يرحبوا بحرارة بأحد السياسيين الكبار في الولايات المتحدة، قابلوا بعض تعليقاته بتصفيق متناثر.
وحاول بنس الذي أكد التزام بلاده تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن يخفف من حدة القلق حيال تعامل ترامب مباشرة مع بوتين متجاوزاً غرب أوروبا. كما رحب الحضور بتعهده بأن روسيا ستتحمل مسؤولة أفعالها في أوكرانيا على الرغم من عدم الإفصاح عن كيفية ذلك.
ولكنه فقد هذا الترحيب عندما علَّق على الانتقادات التي وجَّهها وزير الدفاع الأميركي جايمس ماتيس في مقر حلف الناتو الأسبوع الماضي إلى أعضاء الحلف مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، والتي تتعلق بعدم دفعهم حصتهم من الميزانية المالية، مهدداً بأن تترك أميركا حلفاءها لمصيرهم إذا ما تعرضوا للغزو الروسي.
ومن خلال ترديده لتهديد ترامب الذي قاله عام 2016 بأنه لن يتقيد بالمادة الخامسة في الحلف، التي تنص على التزام جميع الأعضاء بمساعدة أي عضو يتعرض للهجوم، كرَّر بنس تحذير ترامب القائل بأن المساعدة العسكرية التي يقدمها الحلف للدولة العضو التي تتعرض للهجوم، ربما تعتمد على قدر إسهامات هذه الدولة في الحلف.
وذكَّر بنس الحضور في ميونيخ بأن الحلف يتمتع بمبدأين رئيسيين؛ أحدهما المادة الخامسة، والثاني هو المادة الثالثة التي عادة ما يتم إغفالها وتتعلق بالحصة المالية. وقال بنس "اتفقنا في هذه المعاهدة على أن نسهم بحصة كبيرة في الدفاع المشترك. ولم يلتزم الكثيرون ولوقت طويل بهذا التعهد الذي ينص على مشاركة العبء المتعلق بدفاعنا، وهو ما يُخل بأساس تحالفنا. فعندما يفشل أحد الحلفاء في أداء دوره، فإن هذا يُضعف قدرتنا الجماعية على مساعدة بعضنا البعض".
ألمانيا لا تخشى التهديد
واتفق زيغمر جابرييل، وزير الخارجية الألماني الذي تحدث بعد بنس، مع كلام المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قائلاً إن بلاده لا تشعر بالتهديد كي تقوم بزيادة الإنفاق الدفاعي.
وقال جابرييل "لا أعلم من أين ستحصل ألمانيا على مليارات الدولارات كي تدعم الإنفاق الدفاعي إذا أراد السياسيون تخفيض الضرائب".
وفي تغريدة على تويتر عبَّر وزير الخارجية الفرنسي، جان مارك أيرو عن استيائه من أن خطاب بنس لم يحتو على "أي كلمة تتعلق بالاتحاد الأوروبي". بينما رحَّب ترامب ببركسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وهذا يبدو سلوكاً عدائياً تجاه المنظمات متعددة الأطراف مثل الاتحاد الأوروبي.
وأعرب كل من أيرو وميركل عن أهمية التعددية، وليس القومية فقط في الوقت الحالي الذي تزداد فيه الأزمات.
وأعلن وزير الخارجية الفرنسي في تعليقات يبدو أنها تستهدف سياسة ترامب الحالية في الولايات المتحدة: "في هذه الظروف العصيبة، يحاول الكثيرون التفكير بشكل منفرد، ولكن هذه العُزلة تجعلنا أكثر ضعفاً. فنحن بحاجة إلى العكس".
أكدت مهمة بنس في ميونيخ -التي صاحبه خلالها ماتيس وجون كيلي وزير الأمن الداخلي في الولايات المتحدة- فقط على الفجوة المتزايدة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، كما توقعت المملكة المتحدة، وتركت الحلفاء في حيرة من أمرهم كما كانوا من قبل، فيما يتعلق بالتزام ترامب تجاه حلف الناتو.
وغرَّد نيكولاس بيرنز، وكيل وزارة الخارجية الأميركية السابق في إدارة بوش، وسفير الولايات المتحدة في الناتو سابقاً، قائلاً: "بغضِّ النظر عن بيان نائب الرئيس بنس، فإن السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه في مؤتمر ميونيخ للأمن: هل يدعم الرئيس ترامب فعلاً الناتو والاتحاد الأوروبي؟"
حرب عالمية
يُعقد مؤتمر ميونيخ منذ ما يزيد على 50 عاماً، وأسسه إيوولد هاينريش فون كلايست سكيمنزين، أحد المسؤولين الألمان الكبار، الذي اشتهر بالدور الذي لعبه عام 1944 في التخطيط لاغتيال هتلر. اقترح هاينريش لقاء يضم القادة حول العالم، كوسيلة لمنع نشوب حرب عالمية أخرى.
وأصبح المؤتمر أحد أكبر المنتديات الدولية، بعيداً عن الأمم المتحدة. فهو بمثابة حدث غير رسمي يتمتع بطابع فوضوي جذاب تسوده مناقشات كثيرة داخل غرف الاجتماعات المكتظة وأسوار فندق بايرش هوف، المكان الذي تلاشت فخامته -الأضواء والمفروشات والأرضيات الرخامية وتماثيل الشخصيات البافارية البارزة في القرون السابقة- ولكنه يتمتع بموقع متميز، إذ يقع في وسط مدينة ميونيخ.
من بين الحضور الذين قدر عددهم بحوالي 500 شخص، كان ثمة 15 من قادة الحكومات و16 من رؤساء الدول و47 وزير خارجية و30 وزير دفاع و59 من ممثلي المنظمات الدولية، من بينهم الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لحلف الناتو، والمشاهير ومن بينهم بيل غيتس وبونو.
وتعتبر الاجتماعات الثنائية مهمة، مثلها مثل الخطابات التي تُلقى في قاعة المؤتمر، حيث جرى التوصل إلى اتفاقية سلام سورية حتى ولو كانت وهمية بين الولايات المتحدة وروسيا في عام 2016.
ووجه السيناتور الأميركي جون ماكين، رئيس لجنة التسليح في مجلس الشيوخ وأحد أبطال الحرب والمرشح الجمهوري للرئاسة سابقاً، هجوماً عنيفاً على ترامب يوم الجمعة 17 فبراير/شباط 2017. إذ قال متسائلاً "ماذا سيقول جيل فون كلايست مؤسس المؤتمر إذا رأى عالمنا اليوم؟ أشعر بالقلق من أن هذا كله مألوفٌ لديهم".
وعبَّر عن قلقه حيال عدم الرغبة في فصل "الكذب عن الحقيقة" والفوضى التي تنتاب إدارة ترامب، وكذلك الابتعاد عن القيم الدولية "والاقتراب من الروابط الدموية القديمة والعنصرية والطائفية".
هل ينهار الغرب؟
وطرح مكين خلال اشتراكه في مناقشة إحدى اللجان حول القضية سؤالاً "هل ينجو الغرب؟": "في السنوات الأخيرة، كان هذا السؤال يستدعي اتهامات بالمغالاة والتهويل. ولكن ليس خلال هذا العام. إذا كان هناك وقتٌ للتعامل مع هذا السؤال بجدية بحتة فإنه ممكنٌ في الوقت الراهن".
لم يستسلم مكين للمغالاة، وكذلك وولف إيسشينجر، الذي يبلغ من العمر 70 عاماً، وشغل منصب السفير الألماني في المملكة المتحدة والولايات المتحدة سابقاً، وحالياً يرأس مؤتمر ميونيخ، الذي قال إن أوروبا دخلت في حقبة من "التخبط الأعظم"، وهي الفترة التي تعتبر أكثر ضعفاً من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تواجه أوروبا بالفعل مجموعةً من القضايا المتكدسة. وأخفقت أوروبا في التعامل مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا، الأمر الذي أدى إلى ضم جزر القرم عام 2014، ولم يؤد لفرض العقوبات -التي لم يتم تفعيلها حتى الآن- إلى إنهاء العنف. وجلس الطرفان الأوروبي والولايات المتحدة على هامش الصراع السوري الذي تعقّد نتيجة للتدخل الروسي.
هناك مخاوف في أوروبا من التدخل الروسي من خلال هجمات الإنترنت أو انتشار الأخبار المزيفة في الانتخابات القادمة في هولندا وفرنسا وألمانيا، على الرغم من أن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي تحدث في ميونيخ، رفض مزاعم الاستخبارات الأميركية بأن موسكو تدخلت في انتخابات الرئاسة الأميركية. معلقاً: "أود أن أقول: قدموا لنا بعض الحقائق".
إن المشاكل التي تواجه جناحي حلف الناتو الشرقي والغربي، حتى ولو كانت أكثر خطورة من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، لا تعتبر جديدة. ولكن المشكلة الجديدة تتمثل في أنه ولأول مرة لا تستطيع أوروبا الوثوق في المساعدة الأميركية لها.
كما يظهر تهديد آخر من الغرب، وهو احتمال أن يؤدي الخروج البريطاني إلى تفكك الاتحاد الأوروبي.
يميل البريطانيون إلى تقبل ترامب بشكل أكثر من نظرائهم الفرنسيين والألمان. ورفض وزير الخارجية بوريس جونسون، الموجود أيضاً في ميونيخ وفي نفس اللجنة التي يوجد بها ماكين، التحذيرات التي تتعلق بمستقبل الناتو والغرب.
وقال إنه ليس هناك جديد فيما يتعلق بهذه التكهنات، مذكراً بأن كتاب أوسولد سبنجلر الذي حمل عنوان "انحدار الغرب" The Decline of the West كُتب عام 1918.
يوم الجمعة 17 فبراير/شباط 2017، تحدث وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون أمام جمع من وزراء الدفاع، وقال إن أوروبا عليها أن تقلق بشأن بوتين لا ترامب: "إن بوتين، وليس ترامب، هو من ينشر تلك الصواريخ. بوتين، وليس ترامب هو من يتدخل في شؤون الديمقراطيات الأجنبية".
إلا أن الجانب الأمني، خاصة المتعلق بروسيا والناتو، يُرى بعين مختلفة في ألمانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الأوروبية عما يسود في أوساط المحافظين البريطانيين.
ربما سيكون على الأوروبيين الانتظار حتى مايو/أيار 2017 إلى أن يحين وقت أولى الزيارات الرئاسية المقررة لترامب لحضور قمة الناتو السنوية المنعقدة في بروكسل هذا العام، بعدما فشل بنس في الإجابة عن كل تلك التساؤلات المعلقة.
بؤر التوتر عبر الأطلسي
وعرض تقرير صحيفة الغارديان البريطانية رؤية لأخطر بؤر التوتر التي تواجه الغرب.
روسيا
من المقرر أن تعقد روسيا، في سبتمبر/أيلول 2017 أكبر مناوراتها العسكرية على مدار العشرين عاماً الماضية على حدودها الغربية، تعبيراً عن غضبها من توسع الناتو.
وكانت التوترات قد تصاعدت بين الغرب وروسيا، إثر ضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم عام 2014، واتهامها باستمرار الاعتداءات على أوكرانيا.
وقد يتخلى ترامب عن العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا، في سبيل التقارب مع فلاديمير بوتين.
دول البلطيق
تضم دول البلطيق عدداً ضخماً من السكان ذوي الأصول الروسية، وهو ما قد يُمكِّن بوتين من اختبار الناتو عبر الحرب الهجينة، وهي خليط من الهجمات الإلكترونية والدعاية السياسية والتدخلات التي يمكن إنكارها.
وذاقت إستونيا قبل عقد مضى، وسط خلاف مع روسيا، بعضاً من هذه الهجمات الإلكترونية التي طالت برلمانها ودوائرها الحكومية والمصارف وغيرها من البنية التحتية الرئيسية.
بركسيت
يوافق مارس/آذار 2017 الذكرى الستين لمعاهدة روما، التي أسفرت عن إنشاء الاتحاد الأوروبي، وهو الشهر نفسه الذي يشهد مواجهة الاتحاد الأوروبي لأكبر تحدياته حين تُفعِّل المملكة المتحدة المادة 50.
كما يسود الخوف بين الأعضاء المتبقين من أن يشجع هذا الانفصال المزيد من الدول، خاصة مع إشادة دونالد ترامب ببركسيت. وعلى هذه الخلفية المضطربة، والموجة المتصاعدة من الشعبوية، تأتي الانتخابات في هولندا وفرنسا وألمانيا، بينما يسود الخوف من تدخل روسي محتمل، مثلما حدث في الولايات المتحدة.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.