هناك جدل لا يفهمه إلا بعض اللبنانيين وقلة من المتخصصين العرب والأجانب في الشأن اللبناني، جدل بدأ قبل استقلال لبنان، ولَم يتوقف يوماً حول قانون الانتخابات التشريعية، بين المطالبين بانتخابات وفقاً للنظام النسبي (أي القوائم) الذي يصفه مؤيدوه بأنه عصري، وليس طائفياً، وبين من يريد النظام الأكثري (أي الفردي)، وكذلك من يقترح النظام المختلط الذي يجمع بين الأول والثاني.
في المقابل فإن هناك من يسعى لإبقاء القانون الحالي، المعروف باسم قانون الستين (الذي ينظم البلاد لدوائر غير متساوية من خلال النظام الفردي).
كما أن هناك من يواصل طرح ما يعرف بالقانون الأرثوذكسي، الذي يجعل كلَّ ناخب يدلي بصوته لنائب من طائفته.
ولكن قبل محاولة السبر في أغوار هذه القوانين المعقَّدة في البلد الذي يضم أكثر من 18 طائفة وعشرات الأحزاب، يجب أولاً فهم أهمية الانتخابات النيابية في السياسة اللبنانية، إذ يمكن وصفها بـ"أم الانتخابات"، لأن مجلس النواب الذي يتمخض عن هذه الانتخابات يشكل كلَّ السلطات السياسية الأخرى، إذ ينتخب المجلس رئيس الجمهورية، كما يتم تعيين الحكومة بناء على الأغلبية البرلمانية، ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة البرلمانية.
وتزداد أهمية قانون الانتخابات النيابية بالنظر للطابع الطائفي للسياسة اللبنانية؛ إذ إن أغلب، إن لم يكن كل الأحزاب اللبنانية الكبرى هي أحزاب طائفية، فهي لا تعتمد على برامج سياسية، والناخب يختار بناء على انتمائه الطائفي، وإذا كان هناك تنافس فيكون بين الأحزاب داخل الطائفة الواحدة، وبالتالي فإن توزيع الدوائر وطريقة الانتخابات يحددان النتيجة بشكل كبير بناء على انتماءات السكان الطائفية.
فالدائرة ذات الغالبية الشيعية مثلاً إذا أجريت بها الانتخابات بالنظام الأكثري (أي الفردي) سيفوز بها النواب الذين يدعمهم الثنائي الشيعي، أي تحالف حزب الله وحركة أمل، بينما أصوات الأقليات من الطوائف الأخرى سيكون تأثيرها محدوداً، وحتى لو كان لهذه الأقليات مقعد أو أكثر في هذه الدائرة وفقاً للتوزيعة الطائفية للمجلس النيابي، فإنه لن ينجح إلا بأصوات الغالبية الشيعية، وهذا ينطبق على كل الطوائف والأحزاب والدوائر.
وبعد أن نجح اللبنانيون في إنجاز الاستحقاق الأكبر وهو انتخابات الرئاسة، يستعدون لإنجاز الاستحقاق الأصعب وهي الانتخابات النيابية التي أرجئت عدة مرات من قبل، ولكن يؤمل أن تعقد هذه المرة في ظل تفاهمات بين القوى السياسية الكبرى، أفضت لانتخاب رئيس للبلاد بعد فراغ استمر لأكثر من عامين.
وستُجرى الانتخابات النيابية في ظل متغير جديد أظهرته الانتخابات البلدية الأخيرة، هو التمرد داخل العديد من الطوائف على القوى السياسية التقليدية، وهو تمرد يعزز الطائفية في الأغلب.
واستعَرَ الجدال والسجال في لبنان بشأن أي من التشريعات سيتم إقراره لخوض الانتخابات القادمة على أساسه، في ظل مهلة قانونية تنتهي في 30 مارس/ آذار 2017 (60 يوماً قبل عملية الاقتراع). فما القوانين المقترحة؟.. ما مواقف الأطراف السياسية اللبنانية منها؟ وهل فعلاً المختلط هو المخرج؟
موقف رئيس الجمهورية
في موقف بارز لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون اعتبر أن ما طرحه سابقا بشأن قانون اللقاء الأرثوذكسي (مشروع قانون يجعل كل طائفة تختار نوابها) جاء لأنه يحقق عدالة التمثيل مئة في المئة، إضافة إلى أن النسبية في القانون تسمح بتمثيل الأكثريات والأقليات في كل الطوائف من دون تهميش أو إقصاء أحد.
وقال عون: "إذا كان لدى أحد صيغة لقانون يحقق العدالة أكثر فليطرحها للنقاش الوطني.
وسبق أن قال الرئيس اللبناني العماد ميشال عون إنه "إذا تم تخييري بين الفراغ والتمديد لمجلس النواب فسأختار الفراغ".
وهو كلام يبدو أنَّ عون أدرك حساسيته، لا بل "محظوريته" فتراجع عنه بقوله إنّ "الانتخابات النيابية ستجرى في موعدها وفق قانون يتجاوب وتطّلعات اللبنانيين في تمثيل يحقق التوازن ولا يقصي أحداً".
وسرعان ما أطلق هذا الكلام السجال حول صلاحيات رئيس الجمهورية كما وردت في اتفاق الطائف.
اجتماع اللجنة الرباعية
من جهتها، عاودت اللجنة الرباعية التي تبحث قانوناً جديداً للانتخاب اجتماعاتها السبت 27 يناير/ كانون الثاني 2016، التي تضم ممثلين عن حركة أمل بزعامة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وحزب الله الذي يقوده حسن نصرالله وتيار المستقبل الذي يترأسه رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والتيار الوطني الحر التابع لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
وبحثت اللجنة في مشاريع واقتراحات القوانين الخاصة بقانون الانتخاب، وهي بحسب المعلومات المتوفرة أربعة مشاريع واقتراحات قوانين أبرزها: المختلط بين الأكثري والنسبي مناصفة (64 مقعداً للأكثري- 64 للنسبي) والمقدم من النائب عن حركة أمل علي بزي، والمختلط بنسب (68 – 60)، الذي سبق أن وافق عليه كل من "المستقبل"، "حزب القوات اللبنانية الذي يترأسه سمير جعجع" و"الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه وليد جنبلاط" والمستقلون.
كما أن هناك ما يعرف باسم القانون التأهيلي الذي يقوم على أساس انتخابات تأهيلية طائفياً على مستوى القضاء، ونسبياً على مستوى المحافظة.
وقالت صحيفة اللواء اللبنانية، إن هناك معلومات بأن مساحة الخلاف تضيق وهناك توجه للتوافق على صيغة مختلطة بشأن القانون تجمع بين النسبي والاكثري أي القانون المختلط، مشيرة إلى أن الأطراف الرئيسيّة متوافقون على هذه الصيغة، بما في ذلك وفد "القوات اللبنانية"، باستثناء موقف الحزب التقدمي الاشتراكي (حزب جنبلاط)، الذي ما زال غير واضح بالنسبة لهذه الصيغة.
وبعد اللقاء غرد جنبلاط على تويتر قائلا:
ليس هناك ابواب مغلقة .الصبر والثبات والحوار pic.twitter.com/4WawRGZ9OH
— Walid Joumblatt (@walidjoumblatt) January 27, 2017
لا للنسبية
والأحزاب الأكثر حماساً للنسبية في لبنان حزب الله وحليفاه حركة أمل والتيار الوطني الحر (التيار العوني).
ويعتقد على نطاق واسع في لبنان أن النسبية (أي القائمة الانتخابية خاصة الموسعة) سوف تكون مفيدة لقوى 8 آذار التي يقودها الحزب.
ويرى خصوم حزب الله أن تمسكه باعتماد النسبية الكاملة في القانون الانتخابي المرتقب يؤشر إلى نوايا مبيتة ضد خصومه السياسيين، باعتبار تطبيق مثل هذه الصيغة سيؤدي إلى ضمان فوز أكثرية المرشحين المؤيدين والمتحالفين معه في المناطق الخاضعة لنفوذه، وهذا يعني وجود محاولة مكشوفة لتحقيق الغلبة السياسية عليهم والسيطرة على المجلس النيابي المقبل، وبالتالي الانقضاض عليهم سياسياً بغطاء قانون النسبية من جهة وبترهيب السلاح من جهة ثانية.
ولا يتحمس للنسبية تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية، أما أكثر من يعارضها فهو الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يترأسه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي قال بوضوح إن اعتماد النسبية في قانون الانتخابات يؤدي إلى حالة من عدم التوازن في التمثيل والاستقرار في ظل الطائفية التي تسود البلاد.
وتقول أوساط درزية مطلعة، إن النائب وليد جنبلاط لا يمكن أن يوافق على النسبية؛ إذ إنه لا يمكن أن يوقِّع على قانون انتحاره، وسيقاتل بما أوتي من قوة لإفشال هذا المشروع، وشارعه الدرزي بات مستنفراً ضد هذا الخطر الوجودي المتمثل بالنسبية.
وتساءلت هذه الأوساط عن كيف يمكن لجنبلاط أن يقتنع بالنسبية في ظل هذا الواقع، حيث يبلغ عدد الناخبين الدروز في كل لبنان 205.137 ناخباً فقط، ولهم 8 نواب، وبالتالي القانون النسبي سيقلل وزنهم السياسي لأنه سيجعل عدداً من النواب الدروز ينتخبون من غير الدروز.
وهو الأمر الذي يشكو منه المسيحيون حالياً؛ إذ يقولون إن العديد من نوابهم بالبرلمان يتم انتخابهم من قبل الناخبين المسلمين، وفقاً للقانون الحالي.
وقال مفوض العدل في الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه النائب وليد جنبلاط المحامي نشأت الحسنية في تصريح خاص لعربي بوست "إنه لا مصلحة وطنية في الوقت الحاضر لاعتماد النسبية مع اعتماد الدائرة الانتخابية المحافظة، لأنها لا تؤمن صحة وعدالة التمثيل، بل تهدف إلى تغيير التوازن الوطني في مجلس النواب، بإقصاء الممثلين الحقيقيين للمجتمع والفئات اللبنانية".
وأضاف أن "قانون الانتخاب الذي يعتمد النسبية يجب أن يترافق مع إصلاحات سياسية في النظام السياسي كإلغاء الطائفية السياسية واستحداث مجلس للشيوخ، وتخفيض سن الاقتراع إلى 18 وإقرار اللامركزية الإدارية وفتح المجال للمرأة لممارسة دورها في الحياة السياسية".
قال: "لا يمكن عملياً لكل طائفة إيصال نوابها بمعزل عن الطوائف الأخرى"، مشيراً إلى أن القانون الحالي ليس قانون الستين (القانون المثير للجدل) بل أدخلت عليه تعديلات أساسية في اتفاق الدوحة.
وأضاف: "إن هناك انقساماً مذهبياً يؤثر على خيارات اللبنانيين، وهذا واقع يجب العمل على تجاوزه، وصولاً إلى اعتماد خيارات وطنية وليس طائفية ومذهبية".
وشدد على ضرورة الحوار للوصول إلى قانون انتخابي يؤمن التمثيل الوطني الحقيقي ويطمئن الجميع ولا يقصي أو يلغي أيَّ مكون من مكونات المجتمع اللبناني، الذي لا يجب أن تشعر فيه أي فئة أنها أقلية مقابل أكثرية، في إشارة إلى أن اقتراحات القوانين المطروحة ليس هدفها إصلاح قانون الانتخابات، بل الهدف زيادة حصص الكتل الكبرى في المجلس النيابي.
ويؤكد نشأت الحسنية، أن عدم الاتفاق على القانون من شأنه أن يدخل البلد في أزمة التعطيل، ما يؤدي إلى مأزق وطني.
كواليس الاجتماع الرباعي
وكانت صحيفة "الأخبار" اللبنانية المقربة من حزب الله وسوريا قد نشرت ما دار في اجتماع اللجنة الرباعية، وذكرت أن البحث تركز على اقتراح وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل (رئيس التيار الوطني وصهر رئيس البلاد) بشأن القانون المختلط، الذي يجمع بين النسبي والأكثري.
ويقضي هذا الاقتراح بأن يُقسَّم النواب إلى فئتين، فئة تُنتخب بالاقتراع الأكثري (الفردي) في الأقضية (وهي وحدة إدارية أقل من المحافظة وتتسم غالباً بغلبة طائفة معينة عليها)؛ وفئة تُنتخب بالنسبية، في دوائر أكبر اختلف المجتمعون حولها.
الاقتراح قضى في البداية بأن يكون لبنان دائرة واحدة لانتخاب 64 نائباً بالنسبي (القائمة). ثم عُدّل المشروع لتُصبح الدوائر النسبية هي المحافظات الخمس التاريخية (بيروت وجبل لبنان والشمال والجنوب والبقاع).
ثم طالب البعض برفع العدد إلى سبع محافظات، قبل أن يرفع البعض المطلب ليُصبح عدد دوائر النسبية تسعاً.
مراعاة النسب الطائفية
وبينما ينتقد الساسة اللبنانيون القانون الحالي (قانون الستين)؛ لأنه غير عادل وطائفي كما يقولون، فإن مفاوضاتهم بشأن قانون جديد غرقت في تفاصيل طائفية أكثر.
فمشروع القانون الذي طرحه باسيل تطورت المناقشات فيه إلى تقسيم نواب البرلمان إلى فئتين؛ الأولى نواب يمثلون أقضية يسود فيها مذهب معين بنسبة ثلثي الناخبين أو أكثر، ففي هذه الأقضية يُنتَخَب ممثلو هذا المذهب في القضاء بالنظام الأكثري (الفردي).
أما الفئة الثانية فتضم النواب الباقين من الطوائف الأخرى التي تعد أقليات في هذا القضاء، وهؤلاء يُنتخبون بالنسبية (القائمة) في الدائرة الكبرى من خلال ضم هذا القضاء لأقضية أخرى، مثلاً الشيعة في البقاع الشمالي يشكّلون أكثر من ثلثي الناخبين، ما يعني أن النواب الشيعة سيُنتخبون بالنظام الأكثري في البقاع الشمالي، فيما يُنتخب النواب المسيحيون والسنّة في نفس المنطقة بالنسبية، مع نواب البقاعين الأوسط والغربي (أي ينضمون لدائرة أوسع)، على أساس أن البقاع دائرة واحدة لـ17 مقعداً.
كذلك الأمر في طرابلس، حيث يُنتخب النواب السنّة بـ"الأكثري"، فيما يُنتخب النواب الأرثوذكس والموارنة والعلويون بالنسبية في محافظة الشمال (محافظة ذات غالبية سنية)، مع النواب المسيحيين والعلويين في عكار (محافظة ذات غالبية سنية مرتبطة بمحافظة الشمال تاريخياً وستضم لها في الدائرة الموسعة المقترحة).
وبهذا النظام سيكون لكل ناخب في نفس المنطقة دائرة تختلف عن جاره في السكن بسبب اختلافها الطائفي.
إرضاء الحريري وجنبلاط
ثم أضيف تعديل جديد: عند احتساب نسبة الناخبين في دائرة، يتم التعامل مع جميع المسيحيين كأبناء مذهب واحد. أما المسلمون فيُقسّمون إلى أربعة مذاهب، السنّة والشيعة والدروز والعلويون. وعندما تبيّن أن نسبة السنّة في دائرة بيروت الثالثة لا تشكّل ثلثي الناخبين (66.66 في المئة)، بل أقل من ذلك بـ0.3 في المئة، جرى خفض المعيار ليُصبِح 66 في المئة، إرضاءً لرئيس الوزراء سعد الحريري، ثم جرى خفض المعيار إلى 65 في المئة.
ولإرضاء النائب وليد جنبلاط، جرى استثناء عدد من مقاعد الدروز من المعيار، ثم استثني آخرون لتحقيق التوازن!.
المسلمون وفقاً للنسبية والمسيحيون بالأكثرية
وإحدى الصيغ التي قيل إنها تم تسريبها من وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل صيغة تقضي بإجراء الانتخابات في معظم الأقضية ذات الغالبية المسيحية على الأساس الأكثري، أي إبقاء الدوائر والمقاعد وفق قانون الستين الحالي، لأن هذا يخدم التحالف بين عون وجعجع القائم حالياً، أما في المناطق ذات الغالبية المسلمة، فقد قسمت بين الأكثري والنسبي.
ونتيجة هذا الجدل حسبما تقول صحيفة الأخبار اللبنانية يريد الباحثون عن قانون يرث قانون "الستين" الحالي، باستخدام النسبية كشعار، ولكن يريدون استمرار نتيجة القانون الحالي.
فوقفاً لبعض هذه المقترحات فقد ينتهي الأمر إلى أنه في محافظتي الجنوب والنبطية (محافظتان أغلب سكانهما من الشيعة) فإن النظام الأكثري سيسري على 21 مقعداً من أصل 23 في المحافظتين، بينما تطبق النسبية على مقعدين في المحافظتين اللتين تعدان معقلاً لحزب الله، الذي يدعو دوماً لتطبيق النسبية بشكل كامل!.
مما جعل صحيفة الأخبار تصف "ما يحدث بأنه "وقاحة واحتيال على النسبية.
وبصرف النظر عن الشعارات المرفوعة بشأن محاربة الطائفية أو ضمان التمثيل العادل للطوائف، فإن زعماء هذه الطوائف إذا اتفقوا على قانون جديد للانتخابات، فإنه من المؤكد أنه سيكون لإعادة إنتاج سلطتهم، وضمان استمرار النظام الطائفي اللبناني الذي دائماً ما ينتقدونه هم أنفسهم بينما وصفه البعض بأنه أقوى نظام في المنطقة.