على نحوٍ مغاير لحال معظم المراهقين؛ تبدأ آشلي دلغادو يومها المدرسي بعبور حدودٍ دولية؛ تستيقظ في الخامسة صباحاً، كي تتمكن أمها (دورا) من القيادة في حركة المرور الكثيفة بمدينة خواريز المكسيكية إلى جسر باسو ديل نورتي، وعنده تتبع الطريقَ المحاطَ بالسياج بين المكسيك والولايات المُتحدة الأميركية سيراً على الأقدام.
ويستغرق التخليص الجمركي في المتوسِّط نصفَ ساعةٍ، لكن ذلك يتضاعف في كثير من الأحيان، اعتماداً على الطابور وأمزجة الحراس، بحسب ما ذكرت صحيفة الغارديان البريطانية.
"أحياناً؛ يضعون الناس في غرفة صغيرة للتحقيق، ويبدأون في طرح الأسئلة"، هكذا تقول الفتاة البالغة من العمر 14 عاماً، بينما تأخذها أمها من الجانب المكسيكي في نهاية يوم مدرسي، "من أين أنت؟" ماذا تجلب؟ ماذا ستفعل في الولايات المتحدة؟ هذا لم يحدث أبداً معي، لكنه يحدث لبعض أصدقائي كل 3 أيام".
تنجو آشلي من تلك الأسئلة بفضل جنسيتها المزدوجة؛ ما يمكنها من الوصول إلى كافة المناطق التي تمر بها في مدينتي خواريز بالمكسيك وإل باسو في الولايات المُتحدة.
واقعة في الصحراء الممتدة ومحاطة بجبال ذات ارتفاعات مُتدنية؛ تنفصل المدينة الصناعية لخواريز، تشيهواهوا، عن الولايات المُتحدة بشريط ريو غراندي الضيق – وإن أمكن حتى أن يُسمى نهراً، ففي هذه النقطة من رحلته لا يصير شيئاً أكثر من بركة مياه في مجرى النهر الخرساني المتناثر.
ويُحدد سياج كهربائي مُنخفض الحدّ الفاصلَ بين المدينتين، بأربع نقاط عبور حدودية تعرقل حركة المرور المستمرّة في كلا الاتجاهين. وبعد مدينتي سان دييغو وتيخوانا المتجاورتين، توجد ثاني أكبر منطقة حضرية مزدوجة القومية على الحدود الأميركية المكسيكية، بمجموع سكان يفوق 2.5 مليون نسمة.
وفي حين أن تلك السابقة مُنفصلة بمسافة 20 ميلاً؛ فإن مديتني خواريز وإل باسو تقعان واحدة فوق الأخرى، إذ إنهما منقسمتان تاريخياً من نفس المدينة؛ ففي العصر الحديث كانت مدينة إل باسو جزءاً من المكسيك حتى حلول 1846، حين تحرّكت القوات الأميركية على طول ريو غراندي واستولت على مساحات من الصحراء الجنوبية الغربية.
ولسنوات؛ عاشت المدينتان المحاذيتان حياةً تكافلية؛ إذ يمتزج سكانهما وثقافتهما واقتصادهما على كل جانب من الحدود العسكرية.
وبالوصول إلى إل باسو من جسر باسو ديل نورتي؛ تجد واجهات المتاجر تعرض المراتب والبطانيات والسجاد باللغة الإسبانية؛ وعلى مقربة؛ تقبل محطةُ غازٍ البيزو (وهي العملة المكسيكية) وتعطي الدولارات الأميركية في المقابل.
وكما هو الحال في مدينة تيخوانا؛ حوّلت العمالة الرخيصة والموقع الحدودي مدينة خواريز إلى مركزٍ صناعي، وبتضاؤل صناعة الملابس الجاهزة بمدينة إل باسو في التسعينات، أسست اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا – NAFTA)، التي أُبرِمت عام 1994، عشرات المصانع بامتدادات مدينة خواريز الغابرة.
واليوم؛ يدفع عاملون في أكثر من 350 مصنعاً بالمكسيك – يُدار من قِبل شركات أجنبية ويُصدّر إنتاجه إلى الخارج – بصناعات قطع غيار السيارات والأجهزة الطبية والإلكترونيات، ويكسب معظمهم أقل من 11 دولاراً أميركياً في اليوم الواحد، ومن المفارقات أن الخواريزيين يشترون إلكترونياتهم من مدينة إل باسو، حيث تكون الأسعار هناك أرخص كثيراً.
مزدوجو الجنسية
وبالنسبة لمزدوجي الجنسية، مثل آشلي التي بإمكانها التحرك بحريّة بين البلدين، فإن التقارب بين المدن يوفّر امتيازات فريدة من نوعها، بدءاً من التسوّق الأفضل وصولاً إلى الوظائف الأفضل.
"أريد أن تكون لي حياة مهنية في الولايات المُتحدة، بقيود أقل من هنا"، هكذا تقول آشلي. ومثل العديد من النساء المكسيكيات اللاتي يعشن بالقرب من الحدود، عبرت أمها دورا إلى الولايات المُتحدة كي تَلِد ابنتها، "الأمر على ما يرام مادمت تدفع مصاريف المستشفى" هكذا قالت، مُضيفة: "المزيد من الخيارات، وفرص أفضل، لقد كنت خائفة مما عليه الحال في خواريز".
وبين أعوام 2008 و2012؛ اتشحت مدينة خواريز بالثوب المشؤوم كـ"أكثر المدن عنفاً في العالم"، إذ تدفع تجارة المخدرات بالعصابات المتنافسة للقتل بمعدلٍ أثار فزع المجتمع، وعلى النقيض؛ كانت مدينة إل باسو الهادئة النظيفة تُسمّى لأربعة أعوام على التوالي "أكثر المدن الكبيرة أمناً في الولايات المُتحدة"، ويبدو أن معركة المُنتجين في مدينة خواريز قد استقرّت في الوقت الحالي – على الرغم من أن أكتوبر/تشرين الأول قد شهد ارتفاعاً مفاجئاً في حوادث العنف، وبدأت موجة جديدة من افتتاح المطاعم وأعادت الثقافة الإبداعية الحيوية إلى المدينة، ويعود أهل إل باسو الذين كانوا خائفين يوماً من العبور.
في جامعة إل باسو، بولاية تكساس الأميركية، التي بها عددُ كبير من الطلاب المكسيكيين؛ يرأس يوشيا هيمان مركز دراسات الداخل الأميركي والدراسات الحدودية، ويقول إن المقيمين في إل باسو يقدّرِون منافع مدينة خواريز، بنفس القدر الذي يقدّره الجانب الآخر في المقابل.
"الجانب المكسيكي هو شبكة أمنٌ اجتماعي للولايات المُتحدة، إذ توجد مستويات هائلة من استخدام الخدمات الطبية الخاصة هناك، فليس باستطاعة الناس تحمل نفقاتها في الولايات المُتحدة" هكذا يقول يوشيا، مُضيفاً أنه نحو 10% إلى 15% من تجارة إل باسو مُستمدّة من الزبائن الوافدين من خواريز.
وبالنسبة للكثيرين؛ تتشتت الحياة الأسرية عبر الحدود التي لا يحول أي قدر من العنف بينهم وبين زيارتها.
وُلِد خوليو شافيز في إل باسو، لكنه نشأ في خواريز، ومثل آشلي؛ يقضي خوليو صباحات مدرسته مُصطفاً بجمارك الولايات المُتحدة، أخذته أمه للعيش في إل باسو في عمر 14 عاماً، عندما انفصلت عن أبيه، لذلك صارت الزيارات ذهاباً وإياباً جزءاً مُنتظماً من الحياة الأسرية.
فمن أجل عشاء عيد الشكر؛ طهى شافيز ديكه الرومي في إل باسو، ثم أخذه إلى منزل أبيه في خواريز ليأكله "طالما كانت هذه هي حياتي، لقد نشأت هكذا، وليس بإمكاني أن أتخيل كيف توجد مدينة واحدة دون الأخرى"، هكذا يقول.
في إل باسو؛ حيث 80% من المقيمين ذوي أصول لاتينية، تعكس حيات شافيز الطابع النفوذي للحدود. فالتقاليد تمر من الأطفال إلى الآباء، وتعود في الاتجاه المعاكس.
"أبي لا يحتفل بعيد الشكر لأسباب أميركية، ويحتفل لأني طلبت منه ذلك، فنحن كأطفال أميركيين نشأنا نتناول عشاء عيد الشكر، لذا على الوالدين أن يتأقلموا مع ذلك".
وكمواطن لدى كل من الجانبين؛ شافيز حساس لإيجابيات وسلبيات كل منهما، يقول: "بمجرد أن تعود إلى الولايات المُتحدة، تتنفس هواءً مُختلفاً، تتنفس الهدوء"؛ لكن هناك جوانب من إل باسو، بشوارعها العريضة الخالية التي تكتنفها الأشجار وبوسط المدينة الصغير، أكثر هدوءاً من اللازم بالنسبة له، إذ يقول: "هنا مُعظم الشوارع خالية بحلول السابعة مساءً، أنا وزوجتي نشعر بأن هذا نوع من الملل هنا".
وبامتداد الطابور الأميركي المكسيكي؛ أوقات الانتظار هي إحباطٌ مُشتركٌ. فعلى جسر الأميركيين؛ يشق باعة الطعام الجائلون طريقهم خلال أربعة مسارات من حراك يتدفق ببطء إلى الولايات المُتحدة؛ ومُتوسّط التأخير من 30 دقيقة حتى ساعتين. ويتنبأ تطبيق بتوقيتات العبور، ويستخدم المقيمون صفحة بموقع فيسبوك لتبادل نصائح بشأن أسرع الطوابير، وفي الوقت نفسه، جنوباً نحو المكسيك؛ تتحرك السيارات والمشاة بحرّية عبر الحواجز، إذ إنه نادراً ما يتم فحص جوازات السفر.
ومن مدينة تيخوانا، قد يستغرق العبور إلى سان دييغو وقتا أطول من ذلك . فميناء سان يسيدرو للدخول هو أكثر المعابر البرية ازدحاماً في نصف الكرة الأرضية الغربي، إذ إنه يتعامل مع 50 ألف سيارة مُتجهة شمالاً و25 ألفاً من المُشاة في اليوم الواحد.
ورغم مشروع توسيع بقيمة 742 مليون دولار أميركي؛ لا يزال 34 مساراً للسيارات المتجهة شمالاً ومدخلُ المشاة الجديد يناضلون لإسراع وتيرة التدفّق المتزايد، فبحلول عام 2030؛ تتوقع حكومة سان دييغو أن تشهد زيادة لحركة مرور السيارات بنسبة 87%، وبإمكان الركاب شراء ما يُطلق عليه اسم "سينتري"، وهو تمرير صالح للاستخدام لمدّة 5 سنوات، مقابل نحو 250 دولاراً، ويسمح للركاب الذين يتم فحصهم مُسبقاً الذين يمثلون خطراً منخفضاً للعبور على نحو أسرع.
أما الآخرون فعليهم الانتظار؛ "إنه ألم"، هكذا يقول جوزيه إيبارا غونزاليس، وهو طالب بمرحلة الدكتوراه يستقر في تيخوانا، ويعبر خلال سان دييغو نحو مرّتين في الشهر لزيارة أصدقائه وللتسوق؛ "ولكن؛ في النهاية الأمر يستحق".
يعرّف غونزاليس بهويّة ثلاث مجموعات مُنفصلة في مدينته، متجاورين في مدينة خواريز، إحدى تلك المجموعات من المكسيكيين المهاجرين الداخليين والجنوبيين، ولا يحملون تأشيرة، وهم راسخون على عاداتهم، وأخرى "بنمط الحدود" مثله، ومجموعة ثالثة هم "بالتأكيد مزدوجي الجنسية، وهم أشخاص يحملون جنسيات أو تأشيرة، يعيشون في تيخوانا ويعملون في الولايات المُتحدة، وهم مزدوجو اللغة ويقتسمون كلا الثقافتين".
وبالتطلّع إلى المُستقبل؛ تحاول مجموعات من وكالات متعددة، بنفاد صبر، ملاءمة البنية التحتية للحدود مع مزاياها الجغرافية، فإلى الجنوب من مدينة سان دييغو، لدى مدينة شولا فيستا خططٌ لجامعة مزدوجة الجنسية، مع التركيز على فرص عبور الحدود.
أول مطار مزدوج القومية
وعلى مقربة في مدينة أوتاى ميسا، افتتح أول مطار مزدوج القومية في العالم، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بالإضافة إلى جسر مشاة يبلغ طوله 150 متراً يقود إلى مطار تيخوانا مباشرة عبر الحدود.
وبالتحرّك لمدّة 25 دقيقة بالسيارة من إل باسو، توجد مدينة سانتا تيريزا في نيو مكسيكو، ولدى المهندس
المعماري فيرناندو روميرو بشأنها أفكارٌ أكبر من أجل التغير. إذ إن "المدينة الحدودية" مخططٌ أساسي لمدينة مزدوجة القومية تشجّع حراكاً أكثر حرية للبضائع والأشخاص عبر الحدود، بمناطق اقتصادية وتكنولوجيا دمج ذكية من شأنها إسراع وتيرة العبور.
وقد صمم التصوّر حول ميناء بري استراتيجي تخدمه الحديقة الصناعية الجديدة التي تمتد 225 فداناً، وطريق I-10 السريع، واتصالات السكك الحديدية القومية، وهو مثالي من أجل جني تجارة تقدر بنحو 580 مليار دولار تنقسم سنوياً بين المكسيك والولايات المُتحدة، ويأمل روميرو أن يكون التصوّر نموذجاً للمدن الحدودية في جميع أنحاء العالم.
يقول المهندس المعماري إن "الحدود – بطرق ما – أكثر رمزية مما كانت في أي وقت مضى، على الأقل من وجهة نظر اقتصادية"، ورغم أن الرئيس الجديد للولايات المُتحدة يطرح أفكاراً مختلفة، يعتقد المصمم أن خطط استيعاب المدينة لن تتأثر، إذ يقول "إنها تتواجد خارج نطاق السياسة، لأنها في نهاية المطاف بشأن الناس، وجودة الحياة، والاقتصاد والتعاون".
وبالعودة إلى خواريز- إل باسو؛ يثير دونالد ترامب مزيجاً من السخرية أو الاستخفاف بالمعارضة، مُشتبكاً مع الجمهوريين التقليديين بولاية تكساس، وإل باسو معقل الديمقراطيين حيث صوّت 69% من الناخبين لهيلاري كلينتون.
وقد خلق انتخاب ترامب ظلاماً محفوفاً بالخوف بشأن حيازة المدينة مجموعات من الناس لا يحمل وثائق، لكن في خواريز؛ لا يبدو حتّى قطاع التصنيع قد أُصيب بالفزع من تهديداته المحمومة، فالمصانع توظّف بشكل محموم، واللافتات الإعلانية الضخمة لفرص العمل تتدلى فوق جدرانها.
"هناك بعض الريبة" هكذا يعترف مانويل أوتشوا من شركة TECMA، وهي شركة تساعد الشركات المصنعة على نقل موقعها إلى الحدود، وأضاف: "ما نراه هو تأخر طفيف للقرار النهائي، نحن نخمّن في الوقت الراهن، نحن نعلم أنه سيكون أقوى رجل في العالم؛ ولكن هل بإمكانه حقاً اتخاذ كل القرارات؟".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.