على الرغم من أن المملكة السعودية، هي عبارة عن منطقة صحراوية تفتقر إلى عديد من الموارد الطبيعية اللازمة لازدهار الحياة، إلا أنها أثبتت قدرتها على تحقيق النمو الاقتصادي. وقد كان هذا النمو، في أغلب الأحيان، مدفوعاً بفضل الثروات الكامنة في باطن أرضها.
لكن هذه النعمة السعودية مثّلت أيضاً مشكلة، باعتبار أن انخفاض أسعار النفط خلّف مشاكل للاقتصاد السعودي، تُضاف إلى سلسلة من التحديات التي تواجهها المملكة، خاصة مع تزايد تعدادها السكاني ونسبة الشبان العاطلين عن العمل.
كانت هذه التحديات الداخلية مصدر قلق بالنسبة للحكومة السعودية، تماماً مثل التحديات الخارجية والتغيرات الكبيرة التي تشهدها المنطقة. وقد سعت المملكة من خلال فرض الإجراءات التقشفية والسعي "لعودة الاقتصاد" وتطويعه على الطريقة السعودية؛ من خلال الاعتماد على الموارد البشرية المحلية عوضاً عن العمالة الوافدة، لمعالجة بعض هذه التحديات التي تواجهها مثل البطالة وارتفاع الإنفاق العام.
كما وضعت الرياض أهدافاً أخرى طموحة وضخمة خلال السنوات الـ15 المقبلة، في إطار"رؤية 2030″. ولكن التساؤلات المطروحة الآن تدور حول الصعوبات التي قد تعرقل إنجاز هذه البرامج. ومن بين كل هذه العراقيل، يمكن الحديث بشكل خاص عن مسألة شح المياه في المملكة العربية السعودية.
تعاني المملكة العربية السعودية من نقص المياه الصالحة للشرب، وهو أمر غير مفاجئ بالنظر لخصائصها الطبيعية؛ حيث أن هذه الدولة التي تعدّ الأكبر في منطقة شبه الجزيرة العربية، تمتد في معظمها على المجال الصحراوي والأراضي القاحلة، باستثناء بعض المناطق التي تتمتع بوجود المياه في الشرق.
ومن المؤكد أن المملكة قد تعاملت مع هذا الواقع منذ نشأة هذه الدولة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كما تعلمت قبائل الجزيرة العربية أن تتعايش مع هذا المشكل منذ قرون. ولكن خلال النصف الثاني من القرن العشرين تزايد استهلاك المياه بشكل كبير، خاصة في ظل الارتفاع المطرد لعدد سكان البلاد. وفي ظل الضغوطات الاقتصادية والتحديات التي واجهتها خلال العقود الماضية، ظهرت في المملكة مشكلة نفاذ المياه.
لا شيء في الصحراء؟
وفي الواقع، أجبر نقص المياه السطحية على امتداد أغلب مناطق البلاد، السكان على الاعتماد على المياه الجوفية. في المقابل، بالكاد تكفي هذه المدخرات المائية لتوفير 76 متراً مكعباً لكل سعودي في السنة، وهذا معدل بعيد عن المعدل المقبول عالمياً، الذي يقدر بحوالي 500 متر مكعب لكل فرد سنوياً وهو مؤشّر يكشف بدوره عن شح المياه في المملكة. وحتى مع وجود أكبر محطة لتحلية مياه البحر في العالم، فإن الاستهلاك السعودي لا يزال يتجاوز بكثير مقدراتها الطبيعية من المياه المتجددة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الآبار العميقة التي توفر النسبة الأكبر من المياه في السعودية؛ تحتاج لوقت طويل لاستعادة المياه المستهلكة. كما أنه عند سحب كميات كبيرة من الماء تفوق قدرة الأحواض الجوفية على التجدد، فإن كميات المياه المدخرة وجودتها تصبح على المحك.
فضلاً عن ذلك، تعاني نوعية المياه الموجودة في المملكة، والتي تعرف أيضاً بتسمية "المياه الأحفورية" لأنها محتجزة في مناطق معزولة تحت الأرض منذ آلاف السنين؛ من مشكلة بطء التجدد فيها. وبالتالي فهي معرضة للنفاذ في حال الإفراط في استغلالها.
وتشير بعض التقديرات إلى أن مدخرات المياه الطبيعية في بعض مناطق البلاد تواجه خطر النفاذ خلال العشرين سنة المقبلة. ويعود هذا المشكل أساساً إلى السياسات الزراعية المعتمدة في المملكة خلال الخمسين سنة الماضية، والتي أدت لإنهاك الموارد الشحيحة، التي تمتلكها البلاد.
من جهة أخرى، تشير الإحصاءات بكل وضوح إلى العبء الذي مثلته الزراعة على الموارد المائية في المملكة خلال العقود الماضية. ويذكر أنه خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات، أصبحت المملكة، رغم الصورة النمطية المعروفة عنها ـأنها مساحة شاسعة من الرمال والأراضي القاحلةـ سادس أكبر مصدر للحبوب في العالم.
ويكمن السر وراء هذا الصعود الكبير في المحفزات الحكومية التي مكنت من رفع مستوى الإنتاج بشكل لافت فاق الأهداف المرسومة مسبقاً وتجاوز أيضاً قدرة المملكة على التخزين. وخلال فترة الثورة الزراعية هذه، تزايد حجم المساحات المروية بنسبة تفوق 400 بالمائة في أقل من 20 سنة.
وفي مرحلة لاحقة، تبيّن أن هذه الاستراتيجية التي كانت تفتقر إلى الاستدامة، خاصة فيما يتعلق بإنتاج الحبوب المحلي، خاطئة تماماً. وكنتيجة لذلك، انخفض إنتاج الحبوب بشكل حاد، إلا أن الإنتاج في أجزاء أخرى من القطاع الزراعي تواصل خاصة في قطاعات الإنتاج الزراعي ذات القيمة العالية على غرار الغلال والخضر واللحوم والألبان، التي لم تشهد انخفاضاً يذكر. وحتى مع تراجع المبادرات الحكومية المشجعة لهذا التوجه، فإن الاعتماد على الزراعة المروية لم يتراجع في المملكة.
وحتى اليوم، لا تزال الفلاحة أحد أكبر مستهلك للموارد المائية في السعودية، في ظل تزايد في احتياجات قطاعات أخرى، مثل الاستعمال المنزلي واستعمال القطاع الصناعي. وبالإضافة إلى ذلك، ارتفع طلب القطاع الصناعي على المياه بنسبة 7.5 بالمائة سنوياً على مدى السنوات الماضية. ويتوقع الخبراء أن يتواصل هذا التزايد السريع، ليصل إلى مستوى 50 بالمائة خلال 15 سنة المقبلة.
وبينما تسعى الرياض لتنويع مواردها الاقتصادية والتخلص من التبعية للنفط والغاز الطبيعي، (وهو قطاع ينتظر أن يستهلك المزيد من المياه في المستقبل)، ستواصل هذه الأرقام ارتفاعها بلا شك، خاصة مع نمو قطاعات الصناعة وأنشطة التحويل التي تمثل أبرز ملامح "رؤية 2030". ولهذا فإن التركيز على تقنية تحلية مياه البحر سوف يكون الحل الوحيد للاستجابة لهذه الاحتياجات.
إنتاج المياه "الاصطناعية"
وفي الواقع، للمساعدة على مواجهة تزايد استهلاك الماء، تسعى الرياض لتطوير وتوسيع عمليات تحلية مياه البحر التي شرعت فيها منذ فترة، بالإضافة إلى إنشاء مشاريع جديدة. وسعياً لمجاراة طلب المناطق الحضرية على المياه، تحتاج المملكة إلى استثمار حوالي 30 مليار دولار خلال الخمس عشرة سنة المقبلة.
ولدعم هذه الخطة، بدأت المملكة في إنشاء مصانع في الوقت الحاضر، ومخططات لإنشاء مصانع أخرى مستقبلاً. وفي حال تمكنت من إنجاز كل هذه المشاريع كما هو مأمول، فإن ذلك سيضيف حوالي ثلاثة مليارات متر مكعب من إنتاج الماء يومياً للقدرات الإنتاجية في السعودية.
كما أن الموارد الطاقية اللازمة لتشغيل هذه المصانع الجديدة والضرورية لإنتاج هذه المياه الاصطناعية، سوف ترفع الطلب المحلي على النفط، وهو ما قد يشكل خطراً على قدراتها على تصدير منتجاتها النفطية. ولكن العديد من هذه المصانع، ومن بينها المنشأة التي ستكون أكبر مشروع يعتمد على الطاقة الشمسية لتحلية مياه البحر في العالم، والذي هو الآن قيد الإنشاء، تركز على زيادة الفاعلية والاعتماد على مصادر الطاقة البديلة.
ولكن بغض النظر عن هذه المساعي، فإن الاستجابة للاحتياجات الطاقية في قطاع تحلية مياه البحر سوف تساهم في مضاعفة الطلب المحلي على النفط في المملكة العربية السعودية.
كما أن سعي المملكة لخصخصة العديد من القطاعات الاقتصادية سوف يلعب دوراً في دفع قطاع تحلية المياه. وتجدر الإشارة إلى أن حصة المؤسسات الحكومية من أنشطة تحلية مياه البحر، سجلت انخفاضاً من 84 بالمائة في سنة 2009 إلى أقل من 60 بالمائة في سنة 2013. وستكون شركتا "الجبيل للماء والكهرباء"، و"الشعيبة للماء والكهرباء" أكبر منتجين للمياه المحلاة في المستقبل، بالإضافة إلى ثمانية منتجين آخرين سوف يقدمون الإضافة في هذا الصدد.
من جانب آخر، يمثل هذا القطاع مجالاً واعداً لخلق فرص عمل جديدة للمواطنين السعوديين، وتطوير التعاون بين القطاعين العام والخاص. وقد تم أيضاً فتح قطاع تحلية المياه أمام الاستثمار الأجنبي، كشركة الجبيل على سبيل المثال، التي تعود ملكية أغلب أسهمها إلى السعوديين، والتي جذبت أيضاً مستثمرين كويتيين وشركات من فرنسا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.
كما ظهرت مؤشرات على أن الرياض قد تصبح مهتمة بالتعاون مع إسرائيل في هذا المجال، خاصة وأن الاحتلال الإسرائيلي قطع أشواطاً كبيرة في تكنولوجيات تحلية وإعادة تدوير المياه من أجل ضمان أمنها المائي.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود، فإن عمليات تحلية المياه لن تكون كافية لملء الفجوة بين الطلب والموارد الطبيعية من المياه المتجددة. ولحماية مواردها المائية التي بدأت بالنضوب، سيتوجب على المملكة الاستثمار في قطاع المياه من أجل خفض الكميات المهدورة، وخفض معدلات استهلاك قطاعي الزراعة والصناعة، وإنهاء التشجيعات الحكومية التي تساهم في إهدار المياه دون أية فائدة حقيقية.
وفي الحقيقة، يشجّع الدعم الحكومي لأسعار المياه على تبذيرها، حيث أن المواطن السعودي يعد من أكبر مستهلكي الماء في العالم. وعلى الرغم من أن السلطات تدرك هذه المشكلة، إلا أن الرأي العام لم يقبل العديد من التغييرات المتعلقة بفواتير الماء.
وعلى سبيل المثال، فإن خفض الدعم الحكومي على قطاع المياه، الذي جاء ضمن حزمة من الإجراءات التقشفية في السنة الماضية، سبب حالة من الاستياء الشعبي انتهت بإقالة وزير المياه والكهرباء في نيسان/أبريل 2016.
وبالتالي فإن أي تعديلات على هذا القطاع سوف تكون في غاية الصعوبة، وحتى الجهود المبذولة لترشيد الاستهلاك المنزلي للماء من خلال الحملات التوعوية، على الرغم من أنها كانت ناجحة في العديد من دول مجلس التعاون الخليجي، لن يكون لها أثر كبير في السعودية.
وكنتيجة لذلك، ستواصل المقدرات المائية في المملكة العربية السعودية نضوبها بسبب الاستهلاك الجائر. ولكن بالطبع لم يتم نسيان هذا التحدي عند صياغة "رؤية 2030″، حيث أنه تمت برمجة العديد من الاستثمارات في هذا المجال.
ولكن إلى حين تعافي أسعار النفط، فإن القيود المفروضة على الموازنة العامة سوف تؤدي إلى تفاقم هذا المشكل الذي كان ممكناً في الماضي التغطية عليه من خلال الإنفاق السخي. كما أن الاستثمارات ستزيد من قدرة المملكة على تحلية المياه، ولكن هذا الحل بمفرده لن يكون كافياً لتغطية العجز الطبيعي. ولهذه الأسباب، ستواصل المملكة السعودية المعاناة من شح مواردها المائية ومحدودية قدرتها على ضمان أمنها المائي.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Startfor الأمريكي. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.