في زاوية ما رقدت الرغبة، خبأت لهفة عمر، وسنا برق، وغيمة حلم وردي، قيل عن حريق أشعل الشجر أسئلة، عن حريق جعل من وطني ادعاءات لأدعية، وجعل من الإله مزاج شعب، رقدت الرغبة في زاوية، مثنى وثلاث ورباع والخامسة هي جارية، أَكْرَمَهَا مُحْسِن، واسترقها سياق!
نجمة الصبح ذات فجر تتلألأ في كبد السماء، لمَ لا يلحظها المصلون؟! كما ذلك الحب اليتيم، إنه لمن المؤسف أن يكون الحال على ما هو عليه، ومن المدهش أن يبزغ الأمل في أن يكون الأفضل ممكناً، لكنها صفحة الحياة لن تخلو من هامش ممكن ولا من نقطة نهاية يليها سطر جديد، والغد دائماً فرصة ليوم جديد، تبدأه بصباح ورد وتنهيه بجلسة سمر مع أغنيات بعيدة.
نلحظ الجديد من العمائر، نقارنه بقديمها، نمشي على أرصفة صمدت من أوائل القرن وأخرى حديثة لم تتحمل خطوات عابريها لسنة، نزور جامعات كانت بواباتها على بطاقات المعايدة رمزاً لنهضة ممكنة، لنجد بوابات أضيفت حديثاً لا يمكن تصنيفها إلا كانتكاسة لحاضر مأزوم، لأسئلة أخطأنا في طرحها وفي استرسال اختراع أجوبتها، بين الحديث والقديم توافقية جعلت من النفاق سمة، ومن الشكل أزمة، ومن الرمزية ابتذالاً، ومن الهوية مشروع قتل، ومن الجديد تشوّهاً.. وبعد:
هل كل ذاك القبح لأنه جديد؟ وكل ذاك الجمال متروك؛ لأنه كلاسيك؛ ولأننا جمهور المعماريين ننفر من السميتري؟! أو لأنه "مودرن قديم" وليس "مودرن جديد" وفق المغالطة النقدية عن الحداثة، لا أتحدث هنا عن القديم الذي يعود لآلاف السنين، أتحدث عن القديم الذي يعود للجيل الماضي ليس إلا، عن بوابة الجامعة التي عبرتها، وعن البوابة الجديدة التي دخلت عبرها بعد تخرجي بسنة، لماذا كل ما هو جديد يغدو شنيعاً في ترجمته للأزمة التي طُرحت منذ بدايات القرن ونُوقشت ووضع جمهور النخبة آلاف الإجابات لها؟!
بيوت جبل الحسين بُنيت أوائل القرن الماضي، وبيوت أخرى بنيت حديثاً، في تلك القديمة تجد تصاميم تمكنت من إيجاد برندات رشيقة من مدماك واحد، في الجديدة لا يعرف أحد كيف يمكن تحقيق ذلك.
في الصفحات الأولى لكتاب نبيل علي "الثقافة العربية وعصر المعلومات"، نجده يجرف علينا سيلاً من الأسئلة تحت أبواب ثلاثة: ماذا يجري من حولنا؟ ماذا جرى بنا؟ ماذا سيجري لنا؟ ومن اللطيف أننا في كل هذه الأسئلة في موقع اللاعارف، المتجاهل، الضعيف، نحن لا نهتم بما حولنا ولا نفهم حقيقة تَكَوُّنِ مواقفنا تجاه الحال الحاضر ولا نفكر أبداً فيما يمكن أن نكونه، نحن كأننا "بنو إسرائيل" في عجالتنا.. في خوضنا للأسئلة دون أن ننتظر حتى إجابة واحدة.
لماذا؟ لأننا نريد أن نحسم الأمر لصالحنا دون أن نتعب، ولأننا أدمّنَا وَهْمَ أننا جيدون في زمن رديء، ولأننا نتسابق في طرح الأسئلة، تقول أغنية مسلسل "ذاكرة الجسد": لا تبحث كثيراً في سؤال السؤال.. لا تبحث عن حقيقة في خيال.. خيال كذاك الذي يحدثنا عن "تراث" لا ينضب، عن مصادرات لمفاهيم جاهزة حول هذا صح وذاك خطأ، عن سحر ممكن أن ينتشلنا بمجرد أن عُدنا للرشد الذي فقدناه.
في الأدب نقرأ الرافعي "وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد هو الذوق والفهم جميعاً"، وهذا ما يحصل، المعماري الذي يبني دون فهم وذوق هو فقط "يجيء فهمه خطأ لأنه لا يريد أن يجيء إلا هكذا.."، وفق أنطوني أنطوندياس في كتابه المهم "شاعرية العمارة": العمل المعماري الإبداعي لا يكون إلا بتزامن الجديد مع الفهم، فالجديد يفي بالرسالة الإبداعية، وفهم الشكل معني باللغة المتداولة، اللغة المتداولة التي تجعل من العمارة "تواصلاً" مؤثراً وفعالاً مع ناسها، لا مجرد سوق يُفْرَض على الناس ويحصرهم فيما يُوجده من مساحات وشقق وعزل.
في ماركا، بيوت جميلة، لكنها قديمة، واجهاتها من زجاج تتيح للشمس أن تغمر جلسة السفرة، ولها عتبات حجرية تحكي قصة، في جبل عمان بيوت قديمة كل ما فيها جميل إلا تلك الأزمات المضافة حديثاً معلنة عن تحول المنزل لمقر جمعية، لماذا وبعد قرن من الجدال في إشكاليات القديم معظم جديدنا يبدو هشاً في منطقه وفعاليته وكارثياً في سياقه؟! ستيفن جاردنيار يقول: "المباني الجيدة تأتي من ناس جيدين، وكل المشاكل تُحلّ بالتصميم الجيد"، الجيد يا أصدقائي وليس الجديد.. ببساطة لنكن جيدين.
ميس فان دي روه يقول: "لا أريد أن أكون مثيراً، أريد أن أكون جيداً"، فعوضاً عن إثارة كل تلك السجالات المعمارية عن جدل القديم والجديد والفذلكات الشكلية للواجهات الإسكانية الجديدة والفلل الحديثة، دعونا نركز في إنتاج ما هو جيد وفعال وقادر على أن يصمد لقرن من الزمن.
ديفيد شبرفيلد يبدأ في الإجابة "الفرق بين العمارة الجيدة والعمارة السيئة هو الوقت الذي تُكلفنا إياه". علينا أن نقضي وقتاً أطول في الإجابة، في صقلها في الاستزادة من حقائقها، في التمكن منها، لا أن نرميها سريعاً هنا وهناك كمصادرات تاريخية استشراقية فلسفية دون خوضها حقاً كعمل وإنتاج وتجارب قادرة على أن تصمد مع الزمن وتخدم وترمم وتُحدث الفارق.. كيف؟ ببذل حقيقي للجهد والوقت. عادة أقول لزبائني: "في المنافسة بين الوقت والجودة.. ينتصر الغباء".
رواية آين راند "the fountainhead" تدور أحداثها عن "رجل معماري حداثي" في عشرينات القرن الماضي، يقول: "أنا لا أبني من أجل أن يكون لي زبائن، أنا لدي زبائن من أجل أن أبني"، هذا صعب، ولكنه الطريق. علينا أن نفرض احتراماً يُحدد قوة ما نقوم به، يفرض نفسه داعماً لفكرة أنك ستتعب في سبيل تحقيق شيء مهم، لا بدّ على المعماري أن يحاول أن يجيب من موقع قوة، من موقع من يُقرر ما هو جيد بعد أن يكون قد بحث عنه طويلاً وبجد.
يوسف زيدان في روايته الأخيرة "نور" يشير بقوة للأثر الكارثي للعمائر الجديدة: "وهل تتوهمين أن الذين شوهوا المكان لم يشوهوا حياة السكان ويخربوها!".. في البيت الأندلسي واسيني الأعرج، يجعل من موقفنا إزاء البيت الأندلسي مغزى لكل مقاربته لأزمة بلاده التي تحولت إلى بلد الضباع، انهزام موقف الصامدين من أجل تلك الفراغات الأثيرة لبيت لا ضير من الاعتراف بقيمته الثقافية وقصته التي يحكيها، أمام موقف عام في بلد الضباع يريد أن يسرق البيت من سكانه لبناء برج تجاري باسم الخطاب الجديد، وحفاظاً على الإرث سيُطلقون عليه اسم: برج الأندلس!
"الزمن" قادر على كشف ما يذهب جفاء وما ينفع ويبقى في قلوب ناسه.
لوكوربوزييه قالها منذ البداية: "أن تكون حديثاً ليس موضة، إنها حالة.. من الضروري أن تفهم التاريخ، ومن يفهم التاريخ يعرف كيف يجد الاستمرارية بين ما كان وما هو الآن، وما سيكون بعد ذلك".
ووفقاً للرافعي مرة أخرى "العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد، بل إلى الضعف في لغة والقوة في أخرى".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.