بحكم دراستي في الاقتصاد وحبي لهذا التخصص، أفضل دائماً أن أكتب في الاقتصاد نهاية كل سنة، وقبل التعريج على الاقتصاد الأميركي وتولي دونالد ترامب لزمام حكم أكبر اقتصادات العالم، فإنه من الوجوب التعريج قبلاً على عوامل اقتصادية أكثر أهمية وتأثيراً على اقتصادات العالم ككل، بما فيها اقتصاداتنا العربية، من الواجب علينا كمواطنين عاديين أن نعلمها.
لا بد لنا أن نفهم، وأن ندرك جيداً تلك الحقيقة حول أسواق الطاقة العالمية، التي مفادها أن كميات الاستهلاك اليومي للنفط بالذات سوف تتغير بشكل جذري وكبير، لعاملين أساسيين: أولهما أنه تم خلال العقدين الأخيرين استثمار عشرات المليارات من الدولارات في الصخر الزيتي، الذي يعتبر بديلاً عن النفط ورخيصاً ووفيراً، وأنه ينتظر حالياً جني عائدات الاستثمار تلك، ولا رجعة عنه، كاستثمار ضخ به تلك المليارات، العامل الثاني هو أن حكومات العالم باتت الآن ملتزمة بالاستثمار في الطاقة المتجددة، مما يشكل تحدياً ضخماً لصناعة النفط وصناعة الوقود الأحفوري بشكل عام، وعلى الرغم من أن منظمة "أوبك" أبرمت اتفاقيات مع الدول الأكبر المستوردة للنفط لأجل تحقيق المزيد من المكاسب والحفاظ عليها، فإن سعر برميل النفط حتى لو وصل إلى 60 دولاراً سيكون جيداً، إلا أنه سيبقى بعيداً عن تلك الأسعار للبرميل، التي تحقق دعماً لميزانيات واقتصادات الدول المصدرة للنفط، التي تعاني اقتصاداتها وموازناتها وخططها التنموية اليوم جراء انهيار أسعار النفط.
في تحدٍّ جديد لصناعة النفط والوقود الأحفوري العالميتين، وفي تحدٍّ أيضاً لإدارة دونالد ترامب الأميركية القادمة، وفي تحدٍّ لممثل الطاقة لدى إدارة ترامب القادمة "ريكس تيلرسون" وفريقه، أعلن الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما منذ أسبوع تقريباً عن تجميد صناعة استخراج النفط من القطب الشمالي -نفط بحر الشمال- وذلك لأجل الحفاظ على البيئة، ضمن التزاماته تجاه مؤتمر باريس للمناخ، لكن ينتظر كبار المسيطرين على صناعة الوقود الأحفوري من الرئيس الأميركي القادم ترامب أن يقوم بإلغاء هذا القرار، وخصوصاً بعدما اختار الأخير "سكوت بريوت" كمدير لوكالة البيئة، ومن المعروف عن "سكوت" أنه مناهض لمسألة التغير المناخي، معللاً ترامب اختياره لسكوت بأنه تم إنفاق المليارات لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري دون جدوى، بينما عطلت سياسات مكافحة تلك الظاهرة صناعات ومزارعين لمدة طويلة كان من الواجب الثقة بهم لدعم سوق العمل الأميركية.
على الرغم من اتفاقية "بريتون وودز" في سبعينات القرن الماضي لانفصال ربط العملات المحلية بمخزون الذهب، فإن الذهب لا يزال يشكل عضداً أساسياً في البنوك المركزية لدعم الاقتصادات المحلية لدول العالم، فقد مرت أسعار الذهب خلال 2016 بهزات عنيفة كادت تودي باقتصادات كثير من البلدان، ونجد أن أسعار الذهب سجلت أدنى سعر لها مع اقتراب نهاية 2016؛ حيث عاد لنقطة الصفر مع فبراير/شباط من نفس السنة.
بينما يلف الغموض سنة 2017 القادمة، وخصوصاً بعد انتخاب دونالد ترامب، إلا أن سنة 2016 كانت سنة الأحداث العنيفة والمثيرة وغير المتوقعة؛ حيث شهدنا انهيار أسعار النفط والمؤشرات الاقتصادية حول العالم، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانقلاب تركيا العسكري الفاشل، والتصويت على الدستور الإيطالي، والانتخابات الأميركية وفوز ترامب، والحروب المشتعلة في الشرق الأوسط، وباقي التوترات، والعمليات الإرهابية النوعية في أوروبا، كل ذلك أدى إلى تقلبات قوية في أسعار الذهب صعوداً وهبوطاً، إلا أن هذه التقلبات لن تكون أقل حدة خلال 2017، وربما ستنخفض أسعار الذهب إلى ما دون 1000 دولار للأونصة، لكن البيانات الأميركية التي ستظهر قريباً نتوقع أن تكون سلبية مع دخول فصل الشتاء الحالي، الذي سيعرقل الحركات الاقتصادية للخمسة أشهر القادمة، أضف إلى ذلك ارتفاع الدولار الأميركي مع زيادة التضخم، وارتفاع تكلفة استخراج الذهب، إذاً يمكن لنا هنا أيضاً أن لا نتوقع انخفاضاً لسعر الأونصة إلى دون 1000 دولار في 2017، وربما أنها ستظل تراوح حول 1430 دولاراً خلال نفس السنة.
سنشهد أيضاً هبوطاً حاداً للمؤشرات الاقتصادية والأسهم في الأسواق الأوروبية والشرق أوسطية، رغم أننا لا نزال نجهل تبعات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، خاصة أن سلبيات ذلك الخروج لم تظهر بعد، كما أنني أعتقد أن فقاعة ترامب بدأت بالتلاشي حتى قبل تسلّمه للإدارة في 20 يناير/كانون الثاني 2017، إلا أننا جميعاً ما زلنا نجهل ما ستكون عليه سياسة ترامب الاقتصادية مع ذلك، على الرغم من أنه حقق ما يقرب من 4 تريليونات دولار كمكاسب لأسواق المال الأميركية، جلها دخلت جيوب كبار أغنياء أميركا، وزادت فقر فقرائها، منذ أن انتخب الشعب الأميركي ترامب والمليارات تدخل جيوب أغنياء وول ستريت فقط، مما دفع محللين اقتصاديين للقول بأن وول ستريت احتلت البيت الأبيض، بعد أن كان توجّه البيت الأبيض لأن يحتل وول ستريت كمفهوم ظهر بعد الأزمة المالية العالمية "أزمة الرهن العقاري في 2008″، وتلك ستكون لعنة اقتصادية على العالم تفوق بتأثيرها تأثير تلك الأزمات الاقتصادية العالمية، كأزمة الكساد العظيم في بدايات ثلاثينات القرن الفائت، وأزمة الرهن العقاري التي كان يصدرها الاقتصاد الأميركي كأزمات إلى باقي اقتصادات العالم من خلال ارتباطها بدولاره الأميركي الأخضر، لقد خسرت معظم الأسواق المالية العالمية في أوروبا واليابان وروسيا والشرق الأوسط والأدنى وإفريقيا منذ أن انتخب ترامب، قد تحققت بعض المكاسب في الأسواق الألمانية والفرنسية، إلا أنها لا تقارن بما حققته وول ستريت، فمثلاً نجد أن الأمير السعودي الملياردير الوليد بن طلال خسر 5 مليارات دولار، أي ما يعادل خُمس ثروته، بينما زادت ثروة بيل غيتس مثلاً إلى ما يقرب من خُمس ثروته منذ فوز ترامب!
يجب أن نعلم أيضاً أن حبات مسبحة الاتحاد الأوروبي ستشهد مزيداً من التصويتات لخروج دول أخرى منها خلال 2017، وما زالت مخاطر جمة تعصف بالاقتصاد الأوروبي والعملة الأوروبية، وتوقعات بأرقام منخفضة على مؤشرات التضخم والهزات السياسية، واحتمال انخفاض السندات المالية، وازدياد عمليات شراء الديون العامة من قِبل البنك المركزي الأوروبي، كما كان في إيطاليا أخيراً، وانخفاض العوائد على الاستثمار وخدمة الديون على المدى الطويل وانخفاض المشتريات وحركة الأسواق (…).
من الواجب علينا أيضاً كمواطنين عاديين نُعنى بمسألة الادخار، وتحقيق تلك الأهداف المنشودة من شراء عقار مثلاً، أو استثمار ما، أننا وفي حال ننتظر أن تنتهي الأزمة المالية العالمية الحالية، وتلاشي حالة الكساد والانكماش التي تعاني منها اقتصاداتنا جراء الأزمة المالية العالمية الحالية، يجب أن ندرك أيضاً أن هناك أزمة مالية عالمية تلوح في الأفق القريب، وهي عبارة عن حرب مالية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي تمثلت بدفع غرامات وضرائب من قِبل أضخم المصانع والمؤسسات، مثل "أبل" في آيرلندا، وفولكس فاغن في الولايات المتحدة، وديون بنك دويتشي… وهذا ينذر بأزمة اقتصادية عالمية تتمثل بتشدد السياسات النقدية لدى البنك المركزي الأوروبي، هذا على الرغم من أن البنك الأوروبي أعلن خلال اجتماعه الأخير عن استمرار اتباع سياسته النقدية المتساهلة واتباع برنامج إعادة شراء الديون حتى نهاية 2017، وسيُبقي على معدلات فائدة منخفضة.
يجب أن نعلم أيضاً أنه رغم الحرب الدائرة في اليمن بالذات التي ترهق كاهل المملكة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، فإنه من المتوقع أن تتحسن اقتصادات دول مجلس التعاون نمواً خلال 2017، لسببين رئيسيين: أولهما ارتفاع أسعار المستهلكين لخام النفط حتى ولو كان طفيفاً؛ نظراً لإجراءات رفع الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية في بلدان الاستهلاك، والثاني هو ارتفاع أسعار الفائدة لدى البنوك المحلية في دول مجلس التعاون حسب التقرير الاقتصادي الصادر عن المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي في أغسطس/آب من 2016.
لقد رجح نفس التقرير الأخير أن تقود قطاعات البناء والتعمير، والنقل والمواصلات، والتخزين وإعادة التصدير، النمو الاقتصادي لمجلس التعاون خلال 2017، كما أن تخفيض الإنفاق الحكومي سيؤثر إيجاباً في الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج.
وربما أن "ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2017" وهو التقرير السنوي الذي يصدر عن البنك الدولي، أكثر ما سيهمك عزيزي القارئ فيما يخص ترتيب بلدك بين 190 بلداً حول العالم يأخذها البنك كمقياس، والذي يعتمد 10 معايير أساسية يصنف على أساسها ترتيب كل بلد، مما يعطي تصوراً عن وضع البلد المالي والاقتصادي، ونسبة البطالة خلال عام قادم، سواء بالتقدم أو التراجع، وهذه المعايير هي "النشاط التجاري، واستخراج تراخيص البناء، والحصول على الكهرباء، وتسجيل الملكية، والحصول على الائتمان، وحماية المستثمرين الأقلية، ودفع الضرائب، والتجارة عبر الحدود، وإنقاذ العقود، وتسوية حالات التعسر"، وهنا ترتيب الدول العربية فيما بينها وترتيبها عالمياً "الإمارات الأولى عربياً و26 عالمياً تليها البحرين و63 عالمياً، وسلطنة عمان ثالثة و66 عالمياً، والمغرب رابعة و68 عالمياً، وتونس خامسة و77عالمياً، وقطر سادسة و83 عالمياً، والسعودية سابعة و94 عالمياً، والكويت ثامنة و102 عالمياً، والأردن تاسعة و118 عالمياً، ومصر عاشرة و122 عالمياً، ولبنان حادية عشرة و126 عالمياً، وفلسطين ثانية عشرة و140 عالمياً… بينما تأتي ليبيا في المرتبة التاسعة عشرة، وسوريا في المرتبة العشرين عربياً، بينما الصومال في المرتبة الأخيرة عربياً وعالمياً بعد ليبيا.
إلا أن مثل هذه المراتب العربية المخجلة في القوائم الاقتصادية العالمية، لا يخرجها من كونها معرضة لمراتب أكثر تراجعاً بسبب الفساد المتفشي بين مفاصل حكوماتها وإداراتها، وعدم جدية الخطط التنموية الموضوعة وتنفيذها، وعدم وضوح السياسات والرؤى الاقتصادية والنقدية والتجارية، هذا علاوة على الحروب الدائرة رحاها حالياً، والتوترات وتحديات الجماعات المتطرفة، والجماعات الإرهابية، وتحديات الأمن، وتحديات الانقسام والتشتت والطائفية والجهوية.
إنها لصورة قاتمة عالمياً هذه المرة، بنسب متراوحة، تاركة وراءها صورة أكثر شمولاً وتفاؤلاً؛ إذ إنه من الواجب على جميع الأطراف الدولية البحث عن مخارج للأزمات وأعناق الزجاج والحروب والنزاعات في سبيل إنعاش العالم واقتصاداته، وهنا ستكون الفائدة عالمية مع تذبذب بالحجم والكمية والزمن، إلا أنها ستعم في النهاية وستحول الانكماش إلى انفراج، والحروب إلى سلام حتى ولو لم تكن في سنة 2017، وهذا حال الكون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.