كانت واقفة أمام بائع الحلوى في السوق تجول عيناها في صنوف المعروضات، أدهشها التناسق الغريب بين ألوانها كشأن من يقفون بجانبها من المتبضعين والفضوليين، هي لم تشترِ حلوى منذ سنوات، منذ أن أصيبت بمرض السكري وألحّ عليها طبيبها البولوني النحيف بتجنب قائمة طويلة من المأكولات.
زوجها السبعيني مريض مثلها، غير أنه كثيراً ما يتمرد على نصائح طبيبه، وعلى توسلاتها المتكررة للتقيد بالحمية، فكانا دائماً في سجال، كانا يتخاصمان في ذلك الشأن مرتين على الأقل في اليوم، حتى إن الجيران استأنسوا أمرهما، ولم يعُد صراخهما الليلي يزعج أحداً.
أشارت بيدها إلى علبة ذهبية فأسرع إليها البائع الأفغاني الوسيم ووضعها في كيس ورقي أحمر، قالت تحادث نفسها: ما ضرنا لو أهملنا الحمية ليلة واحدة؟ لا ضرر في ذلك، ثم تخيلت ردة فعل زوجها وهي تهديه أفخم أنواع الشوكولا، فابتسمت وظن بائع الحلوى أنها تقصده بذلك فابتسم.
على الجهة الأخرى من الشارع؛ حيث يصطف باعة الورود، شاب أشقر بدين يمسك بهاتف يطالعه بين الفينة والفينة كمن ينتظر إجابة، تشتد حيرته وفجأة يصيح فاتحاً ذراعَيه، يطول العناق للحظات ثم ينفصل المتعانقان ويسيران جنباً إلى جنب، ويتوقفان عند أول متجر.
لا بد له من مستشار حتى يحسن انتقاء الهدايا؛ لذلك رأى أن يستنجد بأعز أصدقائه، في الحقيقة لم يكن لديه متسع من الخيار، فهو الوحيد الذي يجيب عن مكالماته.
سأله متهكماً عن اهتمامه المفاجئ بالهدايا، فأوجم برهة، ثم أخذته قهقهة غريبة.
غاية الأمر أنه يحب فتاة استقرت حديثاً بالحي الذي يقطنه، فتاة عربية من اللاجئين الجدد، قالت له في آخر حديث بينهما إنها تستلطفه، فهم ذلك بمشقة فهي لم تتقن اللغة المحلية بعد، قالت إنها بحثت عن العبارة في الإنترنت وتلقنتها، حاول يومها أن يقبّلها، لكنها راوغته وأسرعت عائدة إلى الشقة؛ حيث تقطن رفقة أمها وخالتَيها وقطتها الصغيرة.
جال في السوق قليلاً ثم وقف أمام متجر الزهور يسأل صديقه عن ألوانها أيها أدل على الحب.
أخذت الكيس الأحمر وناولت البائع ثمن الحلوى، قال لها كلمات لم تفهمها، فأشار إلى المكتوب على الكيس مبتسماً، قرأت السيدة: "عيد ميلاد مجيد"، فضحكت وشكرته، فهمها هذه المرة، فعبارات الشكر كانت أكثر ما سمعه منذ أن استقر في البلاد.
كان آخر يوم له في وطنه دامياً للغاية، فقد فجر انتحاري نفسه وسط سوق شعبية، فقتل مائتين أو يزيد، كان الموت على مقربة منه، لكن الأقدار شاءت أن يغادر السوق قبل دقيقتين من التفجير.
وقبل أن تشرق شمس اليوم التالي، ركب البحر والمخاطر مع شقيقه الأصغر، لكنه بلغ شاطئ الأمان وحيداً، أراد له أن ينشأ بعيداً عن القنابل والدماء، لكنه لم يتحمل أهوال الرحلة فالتهمته زرقة الموت قبل أن تلفظ جثته على شواطئ اليونان.
يخرج الصديقان من متجر الزهور على عجل، يد البدين تمسك بتوتر بوردة بيضاء يزينها شريط فضي، تقاسيم وجهه لا تعلن الرضا عما أبداه صديقه من نصح، هو يدرك أنه مستشار فاشل، فهو مَن اقترح عليه تقبيل الفتاة اللاجئة، قبل أن يدرك لقاءهما الثالث، وحتى قبل أن يتمكن من نطق اسمها الفارسي دون تلعثم.
يحدق في وردته ملياً وهو يسائل نفسه: هل لهذه الهدية التقليدية الشحيحة أن تلقى لدى الفتاة قبولاً؟ ينسيه مشغله زحمة السوق فيصطدم بسيدة متقدمة في السن كانت تقف أمام متجر للحلوى ويسقط منها كيسها الأحمر.
يهمان بالتقاط الكيس والاعتذار فيضيع صوتهما فجأة وسط صيحات الفزع المرتفعة من كل مكان، يتجمدان لثانيتين في ذهول ثم يرفعان رأسيهما فتعمى أبصارهما إلا عن كتلة ضخمة سوداء تزحف نحوهما في صمت.
في المساء، يقف مراسل القناة الحكومية أمام متجر الحلوى يروي مأساة الأفغاني الوسيم، ومن ورائه تتناثر بتلات وردة بيضاء فوق كيس ورقي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.