أسوأ ما قد تواجهه عزيزي القارئ في يومك هو أن يكون رفيقك في المواصلات أو العمل أو الدراسة كثير الأسئلة، أما إن كان هذا الشخص رفيقك في المنزل فقد قضي عليك حتماً بأن تصبح مريضاً محتملاً بالسكر أو الضغط أو المرارة، عافانا الله وإياكم.
في هذا العصر الذي أصبح الإنسان ينوء فيه بتحمل الإزعاج والضوضاء يصبح الصديق، أو زميل العمل، أو الجار أو بواب العمارة أو سائق التاكسي الذي يكثر من الأسئلة غير محتمل، ليس فقط لأنه يصيبك بالصداع، وإنما أيضاً لأن الرباط الذي بيننا وبين الناس لا يتضمن هذا الخيار أن نكون أداة للإجابة على عشرات الأسئلة -التي يوصف أغلبها بالسهل وإذا تكررت توصف بالسخيفة- ويحذر علماء النفس من الارتباط بمثل هؤلاء الأشخاص إذا أردت أن تحافظ على هدوئك النفسي؛ لأنهم يسحبون الطاقة الإيجابية منك ببطء من خلال استهلاك قدراتك الذهنية بشكل متتالٍ.
في الحقيقة، فإن من بيننا الكثيرين ممن يتصفون بالتطلع المرضي للمعرفة، لكنها هنا ليست المعرفة الحقيقية التي يستقيها الإنسان من الكتب وما على شاكلتها، وإنما الفضول الذي يحول هذا الشخص إلى إنسان آلي يخرج سيلاً من علامات الاستفهام، فمثلاً يجلس إلى جوارك في السينما، ويبدأ في حديثه:
هل أنت متأكد أن هذا الفيلم جيد؟
طبعاً، ألم تخبرني أنه الأفضل؟ هل نسيت أنك تلح من أسبوع لنأتي لمشاهدته؟
أيوه طبعاً، فقط وددت أن أعرف انطباعك عنه.
وبعد قليل يسألك: هل تتوقع أن يموت البطل في النهاية؟
والله، ها نحن ذا نشاهد وسنرى؟
هنا يشعر بأنك بدأت تسأم منه فيغير الموضوع: هل تعتقد أن هذا الفيلم تم تصويره بكاميرا فايف دي؟
الصراحة، لا أعرف لست خبيراً في علم الكاميرات، تخرجت للتو في كلية الإعلام ولا أعرف أن هناك كاميرا اسمها فايف دي، ولم أسأل حتى عن ذلك.. هنا يبدأ يدرك أنك تحاول أن تغلق عليه الطريق نحو مزيد من الأسئلة، فيعاجلك بقوله: يا ترى سيكون الجو برداً عندما نخرج؟
أكيد، نحن في أمشير، وسنخرج بعد منتصف الليل بساعة.
لماذا لم تخبرني إذاً لأحضر جاكيت أو بالطو؟… وهكذا دواليك.
وللعلم، فإن معظم هؤلاء الأشخاص لا يدركون بشكل كامل أن هذا النمط السلوكي يثير غضب واستياء المحيطين، بل يعتبرونه أمراً عادياً، حتى لو نصحتهم بذلك، ويبدو أن هذا هو ما يجعل الكثيرين يتفننون في إحراج هذه الفئة عندما تكثر أسئلتها فيمنحونهم ردوداً أسخف من الأسئلة.
أذكر أن أحد المواقع الإلكترونية أجرى استطلاعاً حول هذه الظاهرة، تحت عنوان: كيف تتعامل مع الشخص كثير الأسئلة؟
فكتبت إحدى الفتيات الرد التالي: أجيبه إذا كان السؤال مهماً، فإنه إنما يكثر السؤال لإحساسه أنك صاحب ثقة لديه، فلا تخيب ظنه. وكتب آخر: أجيبه عن السؤال بسؤال أكثر تعقيداً حتى ينتهي. وقال ثالث: أجهز له أسئلة مرهقة حتى يعرف أنه يرهق غيره إن كان لبيباً، وأهمشه في الأسئلة التافهة إن كان غير ذلك، أما الرابعة فقالت إن أختها تلح عليها بالأسئلة السخيفة حتى وهي تستذكر دروسها، فتجيبها – على حد قولها – بأجوبة معقدة تدخل فيها علوم الكيمياء والفيزياء والفلك حتى تفك عنها.
وتذكرني هذه الردود بما يحكيه التراث أن ﺃﻋرﺍبياً ﺃكل عند أمير وكان شرهاً، فسأله الأمير: ما لك تأكل الخروف وﻛﺄﻥ ﺃﻣﻪ نطحتك؟!
فرد الأعرابي: وما لك تشفق عليه كأن أمه أرضعتك؟ ويحكى أيضاً أن شاباً سأل أحد الشيوخ:
كم تعد؟
فقال الشيخ: من واحد إلى ألف ألف.
فقال الشاب: لا أقصد هذا!
فقال الشيخ: وماذا قصدت؟
فقال الشاب: كم تعد من السن؟
فقال الشيخ: اثنان وثلاثون، ست عشرة من أعلى، وست عشرة من أسفل.
فقال الشاب: لم أرد هذا!
فقال الشيخ: فما أردت؟
فقال الشاب: ما سنك؟
فقال الشيخ: من العظم.
فقال الشاب: كم لك من السنين؟
فقال الشيخ: ما لي منها شيء، كلها لله عز وجل.
فقال الشاب: فابن كم أنت؟
فقال الشيخ: ابن اثنين.. أم وأب.
فقال الشاب وقد نفد صبره: يا شيخ كم أتى عليك؟
فقال الشيخ: لو أتى علي شيء لقتلني.
فقال الشاب في وجهه: فكيف أقول؟
فقال الشيخ: قل كم مضى من عمرك؟
وفي الحقيقة إن الأسئلة هي المفتاح السحري للعلم والمعرفة حتى في أتفه الأمور، لكنها عندما تتعلق بالأمور البديهية، أو تلك التي يمكن للإنسان أن يستكشفها بنفسه دون إزعاج الآخرين، فإن هذا أفضل بكثير من أن يوصم بهذه الصفة، التي تفوق الثرثرة في ضررها، فالشخص الثرثار – وهو مذموم أيضاً – لا يرهقك نفسياً مثل الشخص كثير الأسئلة، فالثرثار يتكلم ويتكلم ويتكلم ويكفيه منك إشارة بسيطة أنك تستمع إليه، أما صاحب الأسئلة فلا يتركك إلا وقد دفعك للرد دفعاً.
الأسوأ من هؤلاء هو ذاك الذي ينهال عليك بأسئلة ليس لك بها علم، وليس هذا هو وقتها ولا مكانها، من أمثلة ذلك السؤال المأثور، عندما كان الثوار في مصر يقتلون في أحداث محمد محمود وغيره، فيقولون: ما الذي جاء به إلى هناك؟ يا سيدي، كان يمر بالصدفة، أو نزل ليشتري الدواء لوالدته، أو حتى نزل ليثور، المهم أن هذا ليس هو السؤال الذي ينبغي أن تسأل.
قبل عدة أيام كتبت على صفحتي في فيسبوك إن الشرطي الذي قتل سفير روسيا في تركيا قال إنه فعل ذلك انتقاماً لأهل حلب، فانهالت الأسئلة التي ليس بها سلطان: ألم يكن من الأولى أن يقتل السفير الإسرائيلي؟ والله لا أعرف، ربما لو نجا القاتل لسألناه هذا السؤال، ويسأل آخر: لماذا حلب؟ ألا تعاني فلسطين منذ عقود؟ صحيح، فعلاً، ليتني نبهته لذلك ليلة أمس عندما كنا نتناول العشاء الأخير معاً، وهو يحشو مسدسه بالرصاصات.
ارحمونا يرحمكم الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.