في بيت دافئ وفي باكر الصباح يعبق البهو برائحة الياسمين، تجتمع الأسرة الصغيرة حول مائدة الفطور، أيمن سيجتاز اختبار اللغة العربية هذا اليوم ويراهن على علامة جيدة، والأب بدوره يعده باقتناء دراجة هوائية مجازاة له على مثابرته، تناول فطوره على عَجَل وهرول قاصداً الباب، حل المساء، عاد الأب وبيده الدراجة، ولم يعد أيمن!
على بعد شارع واحد، حنان عروس جديدة، اقتنت ما يلزمها من جهاز، وحضرت والجارات أطيب الحلويات، فرحة عارمة تغمرها.. أخيراً وبعد خمس سنوات ستزف لخطيبها مالك، ليلة واحدة فقط، ليلة وحيدة تفصلها عن دبكة وطرحة وبداية جديدة لحياة حلما بها سوياً لسنوات، ارتدت حنان الفستان الأبيض وأسدلت الجمال، ويا فرحة لم تكمل! الفرح صار قرحاً والعرس جنازة، حضر الكل عدا مالك، وزفت حنان لشهيد في تابوت!
هناك وفي إحدى المؤسسات، خرجت أمينة من مكتبها بعدما انقضى الدوام، متجهة صوب بيت صديقتها، اشترت لها حلويات تحبها ورغيفاً ساخناً بعد أن طلبت منها تحضير قهوة منسمة، ستجلسان في الشرفة كالعادة وستسترسلان أدق تفاصيل يومهما، في أحد الأحياء وفي الطريق إليها، لم يعثروا إلا على فتات حلوى وأشلاء جسد!
في المستشفى قلق وخوف وتعب، العم مصطفى في العناية المركزة لأسابيع، أبناؤه لا يفارقون المشفى إلا ليلاً وزوجته مذ ولجها لم ترمق الشارع بعينيها.
في لحظة سكون ودموع صامتة لملمت السكرات جسده، شهادة ووصية وفارق الحياة، انفجر نواح أبنائه وزوجته، تبعه تفجير ورصاص وهرولة وصراخ، وأنقاض غطت جثة العم مصطفى وعائلته بأكملها، إلى جانب رضيع حديث الولادة يصدح وسط الركام: أين أمه؟ أو بالأحرى جثة أمه؟! لا أحد يعلم!
ماذا بعد؟! ماذا بعد عاصفة المآسي وزلزال الدمار؟! ماذا بعد القتل والترهيب والإخلاء.. اليتم والترمل المستمر.. الاغتصاب لحق البشر في الحياة وحرمانهم من الحياة.. ماذا بعد التشرد واللجوء.. الخوف والرعب والتهويل؟!
ماذا بعد غربة الوطن.. وقسوة الوطن.. والجوع والبرد في حضن الوطن؟!
ماذا بعد وسوريا تنزف أمام الملأ، تتأوه من عمق جروحها، تحترق وتتآكل؟
ماذا بعد وسوريا تلتهب في حمم بركانية، تجلجل الأرض من وجعها وتصرخ هل من مُنْجٍ؟
ماذا بعد وقد خارت القوى وتلاشت واجتفت المقل وذبلت وشاخ القلب شجناً؟
ماذا بعد ونبع الحضارة غدا منبعاً للألم، وروح الشام وبهجة الشام وأصالة الشام حرقة في قلب كل عربي.. جرح غائر يأبى الالتئام؟
ماذا بعد وقد جردت الإنسانية من أفئدة الأناسي؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.