ما يحدث داخل المشهد السياسي منذ انتخابات السابع من أكتوبر/تشرين الأول من تعثر في إخراج الحكومة إلى حيز الوجود، هو استخفاف وعبثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولا يمكن حتى أن نطلق عليه حتى "أزمة سياسية"، كما يتم توصيف الأمر من معظمهم؛ إذ لا علاقة للأمر لا بالممارسة السياسية وفق الأسس السليمة كما هو متعارف عليه في العادة، كما أنه ليس للأمر أية علاقة كذلك بأي منطق سياسي ولا دستوري ولا حتى اجتماعي يمكن أن نعزو إليه الأمر.
إذ كان يمكن أن نسلم بوجود "أزمة سياسية" حقاً لو أن الأمر ناتج عن خلاف حول توجهات معينة فيما بين الأحزاب المكونة للتحالف المرتقب، أو اختلاف وجهات نظر وتصورات عن برنامج الحكومة أو ما شابه ذلك، أو حتى مسألة اختلاف أيديولوجي أو فكري بين تلك الأحزاب، كما يحدث في بلدان أخرى، أو كما هو وارد دائماً في مثل هذه الحالات.
لكن سبب كل ما يجري اليوم من شد وجذب وتلاسن وحرب بلاغات وتصفية حسابات بين الأطراف، وبما يُشكل عائقاً مباشراً أمام تشكيل الحكومة، له علاقة مباشرة بإشكال عميق، هو في الحقيقة يشكل أكبر عقبة وتحدٍّ يواجه عملية التغيير والتطور السياسي الذي يعرفه المغرب، وهي مشكلة عقلية ومشكلة بنية ذهنية لا تزال تحكم وتتحكم في تصورات صنف خاص داخل النخبة السياسية المغربية، والمصيبة الأكبر أن هذا الصنف وهذا التيار هو الذي لا يزال يتحكم بالجزء الأكبر من خيوط السلطة في المغرب، كما أن سعيه لفرض مَنطِقه وتصوراته لشكل العملية السياسية برمتها هو الذي ينتج ويفرز لنا صدامات وصراعات كما هو الأمر حالياً.
فهذا الصنف الذي يشكل في حقيقته لب ما يصطلح عليه بالمخزن في المغرب، وهو الذي يملك الجزء الأكبر من السلطة الحقيقية، ويمكن القول إنه يشكل التوجه المحسوب عن تيار مقاومة التغييرات السياسية التي طرأت على الحقل السياسي منذ دستور 2011؛ إذ إن الأمر أشبه ببقايا مقاومة لا تزال غير متقبلة وغير مستوعبة لصدمة اللحظة التي جعلت الأمور تنفلت من بين أيديها دون إذن ولا حتى استعداد مسبق للتكيف مع الوضع الجديد، وذلك بما يبقيها محافظة على كل مصالحها كما الوضع السابق تماماً.
لذلك نجد أن ما يقع اليوم هو جزء من الصراع الناتج عن استماتة هذا التيار على إعادة الأمور كما كانت سابقاً، وإعادة ما تعتبره حقاً سلبته منه ثورات الربيع وصناديق الاقتراع مكرهة عن ذلك.
أي أن الأمر بشكل أو بآخر هو رغبة مُلحَّة لدى هذه الفئة في العودة إلى زمن التحكم -الشبه الكلي- في مجريات أمور صنع القرار ورسم السياسات والتوجهات العليا والدنيا للدولة بعيداً عما يمكن أن يجعل الشعب أو مؤسسات صادرة عنه تقوم بذلك.
فما يحدث اليوم من عرقلة إخراج الحكومة مرده بالأساس إلى سعي هذا التيار إلى محاولة (تأديب) زعيم حزب سياسي تمرد على قرار اتخذ من قِبل أطراف داخل دواليب المخزن بالانقلاب على حزب العدالة والتنمية مباشرة بعد بروز نتائج الانتخابات التي بوأته المرتبة الأولى، ورفض المشاركة في تلك "المؤامرة" كما سماها خصومهم، وهو ما لم تغفره له هذه الأطراف، ونزلت بكل ثقلها لاستبعاده من التشكيلة الحكومية المقبلة عقاباً له على ذلك.
حيث بإفساد حميد لخطة (الانقلاب) على نتائج الانتخابات، خلط الكثير من الأوراق وجعل هذه الأطراف تعيد حساباتها من جديد، خصوصاً أن إعادة تعيين الملك لبنكيران من جديد لتشكيل الحكومة خيَّب آمالها بعد مراهنتها باختيار شخص آخر أقل قوة من بنكيران حتى وإن كان من داخل الحزب.
إذ أمام الواقع الجديد الذي فرضته نتائج صناديق الاقتراع وحرص الملك على إبقاء الأمور في إطارها السليم، كان لزاماً من هذه الأطراف البحث عن مخرج بأقل الخسائر، وذلك بضمان وجود قوي لها داخل الحكومة، بما يضمن ويحمي مصالحها، أو حتى بما يجعلها هي المتحكم الحقيقي فيها وليس بنكيران.
لكن الآن أن المسألة وما فيها أن حكومة بزعامة حزب العدالة والتنمية وبمشاركة من حزب الاستقلال بزعامة حميد تمنح هامش مناورة أكبر لبنكيران ضد الفئة المذكورة سلفاً، على اعتبار أن حزب الاستقلال سيكون (أقل تبعية) وخضوعاً لإملاءات هذا التيار، وهو ما سيجعل غايته في الحفاظ على مصالحه كما هي بعيدة المنال بالتأكيد؛ لذلك فهي لن تقبل بالأمر الواقع وسترمي بكل ثقلها لإجهاض أي محاولة لنجاحها.
لكن بالمقابل فحكومة بوجود حزب التجمع الوطني للأحرار المحسوب على أطراف داخل الدولة وبدون حزب الاستقلال بزعامة سيجعل معه أمر تدبير بنكيران لحكومته المقبلة في غاية التعقيد، خصوصاً أن الأمر سيكون أشبه بقيادة سفينة بقبطانين (أي بنكيران وأخنوش)، والمشكلة ألا أحد قد يقبل بإملاءات وتوجيهات الآخر وربما قد يجد المواطن نفسه بعد ذلك أمام رئيسي حكومة ولكل واحد منهما برنامجه الخاص وتوجه المستقل في تدبير الأمور، وهو ما سيجعل من باب الاستحالة في استمرار الحكومة إلى نهاية ولايتها.
وحتى ما كان يبدو حلاً أخيراً أو ذلك الدواء المر الذي تم إبقاؤه كآخر الاختيارات -أي حل البرلمان وإعادة الانتخابات من جديد-، فنعتقد أنه لم يعد كذلك، بل إنه قد يزيد الأمور تعقيداً أكثر مما هي عليه؛ إذ حتى وإن كان ذلك قد يمنح مقاعد إضافية لحزب العدالة والتنمية كما هو متوقع بقوة، إلا أنه مع ذلك سيبقى في حاجة إلى مَن يكف عنه شر ذلك التيار من داخل المخزن ممكن يكن له عداء مبدئياً رغم ما قدم ويقدم من تنازلات.
الخلاصة أنه حتى لو تم تشكيل الحكومة بأي من الصيغ المطروحة حالياً فنعتقد أنه من المستبعد أن تستكمل ولايتها إلى النهاية؛ إذ بما وصلت إليه الأمور الآن من لعب مكشوف وانتقال الاتهامات من التلميحات والتصريحات بالنيابة بين زعماء الأحزاب إلى لغة التراشق المباشر وحرب البيانات والبيانات المضادة.
إذ بمشاركة حزب الاستقلال حتى لو تمت فسيكون الشك والتوجس وربما الضرب تحت الحزام هو المنطق الذي سيحكم العلاقة بين زعيمه وبين أخنوش، أما إذا لم يكن الأخير موجوداً في الحكومة وتم بشكل من الأشكال إقناع الاتحاد الاشتراكي بالحلول محله، فإن الأمر لن يكون بتلك السهولة كذلك، ببساطة لأن تياراً نافذاً داخل السلطة سيكون أول وأكبر معارض للحكومة، وبنكيران على دراية تامة بالأمر ولذلك هو أصلاً لا يزال مستميتاً بإشراك أحد ممثلي هذا التيار داخل الحكومة وهو أخنوش.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.