ضربت الهجمة الجوية الأولى في الساعة 9:02 صباحاً بالتوقيت المحلي يوم 15 من فبراير/شباط 2016. وبينما سارعت فرق الإنقاذ إلى مكان الحادث، حامت الطائرات الحربية ثانيةً من أجل "ضربة مزدوجة"، ودكَّت المستشفى المعزول في شمال غربي سوريا للمرة الثانية، وبعد بضع دقائق للمرة الثالثة، ثم الرابعة.
ووفقاً لما جاء في النسخة الأميركية لهافينغتون بوست، مات خمسةٌ وعشرون شخصاً، بمَن فيهم تسعة من العاملين بالرعاية الصحية وخمسة أطفال في قصف المشفى.
أسرع العاملون والمتطوِّعون الذين نجوا من الحملة على المنشأة التي تدعمها منظمة أطباء بلا حدود نحو أقرب مركز طوارئ في المدينة المجاورة، بصحبة الضحايا. وتبعهم القصف.
مكان خطير
ومن مآسي الأقدار أنَّ المستشفيات أصبحت من بين أخطر الأماكن في سوريا. فوفق الجمعية الطبية السورية الأميركية، وهي منظمة غير هادفة للربح، تعرَّضت مراكز الرعاية الصحية السورية منذ بداية العام 2016 حتى تاريخ نشر هذا التقرير لـ252 هجمة.
عرَّض عددٌ لا يُحصى من الرجال والنساء والأطفال، الذين يعانون إصابات أو أمراضاً في البلد الذي مزَّقته الحرب، عرَّضوا حياتهم للخطر لمجرَّد تلقِّيهم العلاج. والعديد من الأطباء الشجعان الذين يدخلون إلى هذه المستشفيات طوعاً لمساعدة المحتاجين -وهُم على وعيٍّ مثير للكآبة بالمخاطرة الشخصية الجسيمة- لا يخرجون منها مطلقاً.
جيسون كون، المدير التنفيذي لفرع الولايات المتحدة لمنظمة أطباء بلا حدود، يقول "ربما كان أحد المظاهر المحدّدة للنزاع منذ بدايته هو جعل الهجوم على مراكز الرعاية الصحية جزءاً من استراتيجية الحرب".
ويضيف: "في هذا العصر الذي نعيشه، يصير الذهاب إلى مستشفى في سوريا مسعى يحمل في طياته الكثير من المجازفة. لقد أبلغنا بعض زملائنا في سوريا أنَّ الناس لا يؤيدون البقاء في المستشفى أطول ممَّا ينبغي. يحاول الكثيرون الخروج قبل استكمال علاجهم لأنَّهم لا يشعرون بالأمان في المستشفيات".
وتضاعف معدَّل الاعتداءات على المنشآت الطبية منذ تدخُّل روسيا العسكري في النزاع في سبتمبر/أيلول 2015، كما توضِّح أرقام الجمعية الطبية. ووقع ما يقرب من 200 اعتداء بعد 3 من مايو/أيار 2016، عندما تبنَّى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراراً يدين بقوةٍ العنف ضد مقدِّمي العلاج الطبي ومتلقِّيه في البلاد.
وفي يوليو/تموز 2016 فقط، سجَّلت الأمم المتحدة 44 هجمةً على المستشفيات السورية -بمعدَّل واحدة كل 17 ساعة- تشمل 15 هجمة في حلب الشرقية. لم تسلم منشأة طبية واحدة في المنطقة التي كانت محاصرة من المدينة.
توقَّف اثنان من أكبر مستشفيات حلب عن العمل في اليوم نفسه في سبتمبر/أيلول 2016 جرَّاء القصف. وعندما سأل أحد المراسلين بشار جعفري، سفير سوريا إلى الأمم المتحدة، في فعالية صحفية عمَّا إذا كانت حكومته قد أطلقت هذه الهجمات القاتلة، ضحك ببساطةٍ ثم سار مبتعداً. لقد أنكرت كلٌّ من دمشق وموسكو على نحوٍ متكرِّر في الحقيقة أن تكون المستشفيات مستهدفةً.
يصعب تصديق ذلك
منذ بداية النزاع في مارس/آذار 2011 وحتى يوليو/تموز 2016، استطاعت منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان تعقُّب 400 حملة استهدفت 269 مركزاً طبياً متفرِّقاً في سوريا، ممَّا أسفر عن قتل 768 فرداً من العاملين بالرعاية الصحية. اعترفت المجموعة الإنسانية بأنَّ أسلوبها في التوثيق يؤدِّي غالباً إلى تسجيل أعداد أقل بكثيرٍ، إذ تتطلَّب إضافة اعتداء إلى قائمتها مراجعةً شديدة الدقة لكل حادثة واردة وثلاثة مصادر مستقلة على الأقل.
وقالت منسِّقة البحث في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، إليز بيكر "يوجد من الهجمات أكثر ممَّا يمكننا توثيقه". ومع ذلك، فإنَّ أكثر من 90% من الوفيات والهجمات الموثَّقة هي بفعل قوات النظام السوري وحلفائه، بما يشمل الهجمتين اللتين سخر منهما جعفري.
ولدى الأمم المتحدة عدد أكبر، فقد شجب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بقوةٍ ما يزيد عن 600 "هجمة شنيعة" على المستشفيات والعيادات السورية في عامي 2014 و2015 فقط، ممَّا نتج عنه 959 حالة وفاة وأكثر من 1500 إصابة.
سقطت هياكل الرعاية الصحية في حلب ضحيةً لعددٍ مُهلِك من الهجمات. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2016، وصف ستيفن أوبراين، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، نظام الرعاية الصحية في المدينة بأنَّه "شبه مندثر"، فالمنشآت الطبية "تُضرَب واحدة تلو الأخرى".
وبحلول منتصف نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، لم تبقَ هناك مستشفيات عاملة كي تُهدَم. إذ أجبرت أيام الضربات الجوية المكثَّفة آخر من بقوا في الخدمة على تركها، وترك حوالي 275 ألف شخصٍ دون رعاية صحية.
تعلق بيكر "عندما يكون ذلك العدد من السُّكَّان معرَّضاً أيضاً لمئات الضربات الجوية، يؤدِّي ذلك إلى معدَّل وفيات لا يمكننا البدء حتى في تخيُّله".
يعملون في الكهوف
دُمر أحد أكبر مراكز الإصابات في حلب بالكامل، بعد أن قُصف أربع مرات في أقل من ثلاثة أسابيع في وقت مبكر من هذا العام، وفقاً لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان PHR، كما تلق المستشفى المدعوم من الجمعية الطبية السورية الأميركية SAMS على الأقل سبع هجمات بين عامي 2014 و2015، وكانت الطائرات الحربية السورية والروسية مسؤولة عن كل ذلك.
أحمد طرقجي رئيس الجمعية الطبية السورية الأميركية SAMS يروي "لاحظنا نمطاً للهجمات من خلال استهداف نفس المستشفى عدة مرات، كما لاحظنا أيضاً أن تلك الهجمات على المؤسسات الطبية ليست مجرد هجمات منفردة، إذ تُشن الغارات الجوية على العديد من المرافق في نفس الوقت وفي نفس المنطقة لشل الخدمة الطبية في هذه المنطقة، ما يفاقم من عدد الضحايا والمصابين الناتج عن عدم القدرة على علاج ذوي الإصابات المتوسطة".
تدير الجمعية الطبية السورية الأميركية SAMS أكثر من 100 مركز طبي يقدم العلاج والعناية الطبية المتخصصة والعامة في سوريا، وقد أعلنت المنظمة في أول ديسمبر/كانون الأول 2016 أن طاقمها قد طرد من حلب بعد أن سيطرت قوات النظام على كافة المرافق بالمدينة.
ويعود جيسون كون موضحاً "في ظل استهداف وتدمير سيارات الإسعاف، أصبح من الصعب جداً على مسعفي الطوارئ الوصول إلى المصابين ونقلهم إلى المرافق الطبية"، ويلفت إلى أن بعض المستشفيات السورية تعمل تحت الأرض وفي الكهوف، كوسيلة لتوفير المأوى والحماية من القصف الجوي "لم يعد هناك أي خطوط حمراء لم يتم تجاوزها في هذه الحرب".
مستمرة وإن انتهت الحرب
ويتوقع الخبراء أن مشاكل الرعاية الصحية الناجمة عن الحرب سوف تستمر حتى بعد انتهاء الصراع، إذ قالت باكر التي شددت على أن الحاجة الملحة لتلبية الاحتياجات الطبية للمدنيين طالما أُهملت "هناك مشاكل متزايدة بعيدة المدى سوف تظهر خلال العقود القادمة".
وتضيف: "الأطفال لا يحصلون على التطعيمات اللازمة، وهناك الكثير ممن بترت أطرافهم لم يحصلوا على الرعاية التأهيلية المناسبة، سوف يحتاج نظام الرعاية الصحية السوري إلى إعادة بناء بالكامل".
ويتفق معها طرقجي، منوهاً إلى أن الأطفال الذين ينشؤون في مناطق الحرب أيضاً أكثر عرضة لمخاطر ازدياد الاضطرابات النفسية، إذ يقول "شهدنا تنامي أحداث العنف والاكتئاب، على الأخص في المناطق المحاصرة في سوريا، وهي علامة مرضية لن تُعالج بسهولة، وسوف تستمر لأجيال قادمة، بعض هؤلاء الأطفال شاهدوا موت أو اغتصاب أو احتراق آبائهم وأشقائهم رأي العين".
تشير باكر إلى أن بعض المستشفيات التي دُمرت بفعل الضربات الجوية للنظام كانت تحت إدارة الحكومة قبل اندلاع الأحداث، وتقول "الحكومة تعلم أماكن هذه المؤسسات بالتأكيد، لأنها هي التي أنشأتها، ومن ثم فإن العديد من الهجمات على المستشفيات كانت متعمدة بالتأكيد، كوسيلة لإضعاف معنويات عناصر المعارضة، وإرغامهم على الاستسلام".
ولا يزال ينكر!
إلا أن الأسد لا يزال ينكر مسؤولية سوريا وروسيا، بعد أن وجهت حكومة الولايات المتحدة الاتهام لقوات النظام بشن ضربات جوية قاتلة على قافلة مساعدات الهلال الأحمر، التي تقدم المساعدات الطبية في ريف حلب، إذ وصف الأسد ادعاءات البيت الأبيض بأنها "مجرد أكاذيب".
وخلال مقابلة مع وكالة "أسوشيتد برس" بعد يوم واحد من الاعتداءات صرح رئيس النظام السوري أنه كان هجوماً برياً للمتمردين، مضيفاً "أود أن أقول مهما كانت ادعاءات المسؤولين الأميركيين حول الصراع في سوريا، فهي لا تتمتع بالمصداقية بشكل عام".
شهود عيان بما فيهم أقرباء يتحدثون عن طائرات مروحية وبراميل متفجرة و20 صاروخاً على الأقل، هي ما دفع إيان فيليبس الصحفي من وكالة أسوشيتد برس إلى الإشارة إلى أن السوريين والروس فقط هم من يملكون الطائرات المروحية.
يجيب الأسد قائلاً "لا يمكن الأخذ بكلام شهود عيان للحكم على هذه الاتهامات، ما مدى مصداقية هؤلاء الشهود؟ ومن هم؟ نحن لا نعرف".
الدكتورة جوان ليو رئيسة منظمة أطباء بلا حدود خلال خطاب حماسي قبل انعقاد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2016 قالت إن "الحكومة وحلفاءها في سوريا يتعمدون استهداف المستشفيات والأطباء والمسعفين والمرضى بلا هوادة"، مستطردة "يُنقل الجرحى لتلقي الرعاية الطبية، ويُعالج العديد من الجرحى في ظل القصف المستمر، الأطباء يخبروننا أنهم قد يموتون في أي لحظة".
من جانبه يقول طرقجي، خلافاً للتعرض المستمر للموت والألم والمأساة الشديدة، يواجه الأطباء في سوريا صعوبات مبرحة لا يمكن تصورها، في ظل موارد محدودة للغاية، غالباً ما يقعون تحت وطأة اتخاذ قرار شديد الصعوبة بعلاج المرضى الذين لديهم أفضل فرص للنجاة فقط، بينما يضطرون لترك الآخرين ليلقوا حتفهم.
ويتابع "يعتقد الناس أن هذه مجرد حرب سياسية، لكن ذلك غير صحيح، إن ما يحدث في سوريا هو امتهان مستمر للإنسانية".
– هذا الموضوع مترجم عن النسخة الأميركية لـ"هافينغتون بوست". للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.