حنين الماضي

ولأن الروح تتعب، فتخجل من أن تلقى على حضن، مر زمن لم تذق عيناي طعم البكاء، لم نكن نخجل من الارتماء في أحضان أمهاتنا، كبرنا اليوم ولم يعد بمقدورنا فعل ذلك، ولو لم يكن خجلاً، فخوفاً على مشاعرها، خوفاً عليها أن تراك ضعيفاً، فتفزع وترتعد من أجلك، آخرُ مرة بكيت فيها، ابتغيت مكاناً قصيّاً في البيت

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/28 الساعة 02:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/28 الساعة 02:02 بتوقيت غرينتش

ولأنك تحتاج في بعض الأحيان إلى الذهاب إلى ذلك المكان حيث الكل يعرف اسمك، تشتاق لدربك القديم بتفاصيله، حتى صاحب سيارة الأجرة يعرفك، يحدثك معظم الطريق عن أطلال دربكم القديم، شتان بين دربنا القديم وبين هذه المدينة الواسعة المترامية الأطراف، اذهب حيث ما شئت فلن يعرفك فيها أحد، أما سائق سيارة الأجرة فيها، فلا وقت لديه للحديث.

ولأنك تشتاق في بعض الأحيان إلى لعب مباراة قدم هتشكوكية، لها وقت بداية معلوم، ووقت نهاية مجهول، تشتهي خِنَاقَةً مع ابن جاركم الجديد، ولعبة نرد وورق مع أطفال دربكم، لعبة البلبل وكرات الزجاج المزخرفة، أجمل الألعاب تلك الشعبية منها، زهيدةُ الثمن رفيعة القدر والقيمة، زرعت فينا ذكرياتٍ أصبحت كمأوى، كشاطئ وبر أمان، مرساة وطوق نجاة، نخلد إليها كلما أتعبتنا الحياة.

ولأنك ترغب في بعض الأحيان في فنجان قهوةٍ معطرة، على الطريقة المغربية الأصيلة، تُفَكِّرُ في أن الحياة غربة، ودربكم القديم فيها ملتقى الغرباء؛ ليُضحي دربكم كمقهى العرب في إسطنبول، فتجلس مع أصدقاء الطفولة حول طاولة الذكريات، تضحكون على مدرستكم القديمة، تتذكرون كيف كانت تتعب أمهاتكم من أجل إيقاظكم وسط الأسبوع، بينما آخر الأسبوع تستفيقون فجراً دون مساعدة، وتخرجون خلسة لاستقبال الصباح.

ولأن الأرق يأخذ منك في بعض الليالي، يطول ليلك ويشْرُد خيالك، تتساءل: كيف لا يجد الأرق طريقاً إليك في دربكم القديم، تحنُّ إلى تلك الليالي البيضاء، وإلى انقطاع الكهرباء، كيف كنا نجد في محنة نقص الموارد متعة خاصة، ليلةٌ لا بد من أن يجتمع فيها الكل في غرفة واحدة على شمعة واحدة، خوفاً من الخروج في الظلام، لعدم توافر الشموع الكافية، شمعة ترفرف عالياً فوق الخزانة، من أجل إضاءة شاملة، كانت ليلة بمثابة عيد؛ حيث العشاء على منظر الشموع، كما العشاق في عيد الحب.

ولأن القلب يتوه، فينبُش في ملفات الماضي، علَّهُ يجد ما يُريحه، عله يجد رائحة الأحباب، بنت الجيران وحب الطفولة البريء، وتلك الرسائل المعطرة، وذلك الخط المرتعد، ومرسال الحب الأمين، وأول لقاء، صبيب عرقٍ بارد ولسان ملجم، تَحْسَبُهُ لم يتحرك يوماً بالكلام، خانك عند أول موعد غرام، فانطلقتْ عيناكما في كلام مشفرٍ دام لسنوات، ونقش ذكريات ونظرات، ووروداً ورسائل حب، وصورة، عاشت بداخلنا، رغم قساوة الغربة وفظاظة الزمن.

ولأنك تحن في بعض الأحيان إلى سهرات الصيف عند مدخل البيت، إلى جلسات رأس الدرب، إلى يوم الأحد وفطوره المتأخر، والسوق الأسبوعية، ويوم السبت ووجبة السمك، وسيارة أبيك القديمة، حرة أبية توصلك أينما شئت رغم الأعطاب، تماماً كأبي بعزيمته وإصراره، وقصص أبي المضحكة والمعبرة، بطل الجلسات ومؤنس السهرات، والقائم على إبريق الشاي في كل الولائم والحفلات، مَنْهَلُ علمٍ، وكنْز من التجارب والخبرات، كل تصرفاته، كل ما يَبْدُرُ عنه، هو بمثابة درسٍ في الحياة.

ولأن الروح تتعب، فتخجل من أن تلقى على حضن، مر زمن لم تذق عيناي طعم البكاء، لم نكن نخجل من الارتماء في أحضان أمهاتنا، كبرنا اليوم ولم يعد بمقدورنا فعل ذلك، ولو لم يكن خجلاً، فخوفاً على مشاعرها، خوفاً عليها أن تراك ضعيفاً، فتفزع وترتعد من أجلك، آخرُ مرة بكيت فيها، ابتغيت مكاناً قصيّاً في البيت، بطريقة أو بأخرى، أدركت أمي ذلك فهرعت إلي، بكت لبكائي، فوعدت نفسي ألا أبكي أمامها، وأظنني أختزن دمعي لها، لأفاجئ أمي بشلال دموع يوم فراقنا الأبدي، يغسلني ولا يبقي فيّ باقية، فإني ميت لموتك، ولو دبَّت في جسدي الحياة.

ولأن دربنا مدرسة، لم يتغير قلبي بتغير دربي، لا لا مجال للحياد عن تعاليم دربنا القديم، قد ربَّى في مارداً، يخرج كلما نويت الخروج عن ديدن دربنا، يزجرني بحنان وسخاء دربنا، دربنا القديم نموذج للتعايش، ومضرب مثل في التعاون والتعاطف، ذلك الصحن الذي لا يعود فارغاً، ما أجمله من تقليد، وذلك البيت المهجور في آخر الدرب، كم نسجنا حوله أساطير وحواديت، لا ينام بغير عشاء من حالفه حظ العيش في دربنا، لا يغيب جارنا صباحاً أو مساء إلا وأحطناه بالسؤال، ولا صنعنا طعاماً أو وصفة جديدة أو حلوى إلا وأذقنا منها الجوار.

قد تصوفت يا أمي في غربتي، وباتت راحتي في خلوتي، دين دربنا القديم قد حُرِّف، وعرف جيراننا قد زُيف، الأطفال يعودون من المدرسة لا يستقبلهم أحد، ينتظرون خارجاً حتى تعود أمهاتهم، في عرف دربنا لا طفل يبقى دون اهتمام، دربنا بيت واحد كبير، ودربهم مجموعة غرف كخلايا سجن، كلٌّ منهم قد أوصد بابه، دربنا ملعب وساحة لهو كبيرة، ودربهم شارع لا يصلح إلا للمرور، في دربنا مأوى لعابر السبيل ووجبات خفيفة لعمال النظافة، وصفاء روح مزخرف كقصر الرصافة.

دربنا منهل خير، وباب رحمة، وبئر صدقة، ملؤه الكرم والتسامح، دربنا بوصلة خالدة بداخلنا، نقطة بيضاء في سماء خيالنا السوداء، وشراع أملنا في بحر لجتنا المستاء، دربنا مرحلة خلدت فينا الصفاء، لا مكان فيه لحرب الخير والشر الأبدية الشعواء، لا شيطان يسكنه ولا شقاء.

فيا مسافراً إلى جنبات دربي الطفولي البراء، أقري ماضي السلام وأبلغه شوقي وتعبي، من حاضري البارد كالشتاء، ودربي الحالي القاحل كصحراء، وادعُ لي بعد صلاة وبكاء، بالتوبة والرحمة والشفاء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد