تتوالى القصص حول التضحيات التي قدمها سكان في أحياء شرق حلب التي حاصرتها قوات نظام بشار الأسد والميليشيات المساندنة له، وكأنَ المدينة العتيقة أشبه بكتاب أساطير يسرد وقائع ومآسي لا تخطر على بال، لكن ما يميزها هذه المرة، أنها واقعية قام بها الناس فعلاً.
فلم تقتصر جرائم نظام بشار الأسد والميليشيات الأجنبية الموالية له، على فئة دون أخرى، ولم تفرق أعمال القتل والتدمير الممنهج التي مارسها، بين مسلح ومدني، وبين كبير وصغير.
المواطن السوري مصطفى راشد، سطَّر واحدة من هذه البطولات، وهو الآن يتلقَّى العلاج في مستشفى أضنة التعليمي بجنوب تركيا، عقب خضوعه لمجموعة من العمليات الجراحية؛ من أجل التخفيف عما يشعر به من آلام.
كان راشد يعمل حتى الأسبوع الماضي، ضمن طواقم الإنقاذ واستخراج الجثث من تحت الأنقاض في هيئة الدفاع المدني (غير حكومية وتتبع المعارضة السورية)، بحلب الشرقية.
يقول راشد: "كنت حينها أسعى مع زملائي؛ من أجل استخراج أناس كانوا باقين تحت الأنقاض منذ 43 ساعة كاملة".
وفي حزن أضاف: "في أثناء انهماكنا بالعمل، سمعنا دوي قصف جوي أعلانا، ولا أتذكر بعد هذا، إلا أنني عدت إلى وعيي من دون ساقين!".
وتابع: "لم أكن أكترث لحياتي، ولا للمصير الذي ينتظرني، وانضممت بإرادتي كاملة إلى فرق أصحاب الخوذ البيضاء، لإنقاذ آلاف الأرواح البريئة من قصف قوات نظام بشار الأسد والقوات الداعمة له".
"الحصار جلعني أتألم"
وعن حالة أسرته في أثناء الحصار، قال: "كنت أتجرع آلاماً لا يمكن وصفها وأنا أشاهد الأيام تمر على زوجتي وأبنائي الثلاثة دون ماء ولا طعام، وأنا أقف مكتوف الأيدي".
ولفت إلى أن المدينة كانت تعاني خراباً شديداً وتدميراً عمدياً للمنازل، فضلاً عن فرض قوات الأسد حصاراً قاسياً، مع عدم السماح بعبور أي مؤن أو مساعدات إنسانية.
وعن خروجه من حلب، قال: "عندما أُعلن وقف إطلاق النار، ومع بدء إجلاء المدنيين من حلب، أخذت زوجتي وأولادي واتجهنا مع المئات نحو الحدود التركية".
وأردف: "خرجت من حلب، لكن نصف جسدي وقلبي لا يزالان هناك، وستبقى دقات قلبي تتواصل مع كل ذكرى سعيدة لي في هذه المدينة".
وعن وضعه الصحي، أوضح أن ساقيه بُترتا في ظروف ليست آمنة بالمرة، ما تسبب في انتشار التهابات في مواضع البتر.
وأضاف: "أحضروني إلى تركيا في سيارة إسعاف، للتدخل الجراحي السريع، وتركت ورائي أبنائي وزوجتي".
وعبَر راشد عن امتنانه للدعم التركي الذي وجده منذ دخوله من معبر "جيلفا غوزو" الحدودي، وتمنى أن يجتمع بباقي أبنائه، بعد قدوم زوجته مع ابن واحد.
من جانبها، قالت ليلي (زوجة راشد): "صارت حلب مكاناً مُدمَّراً وميتاً، ولا يوجد أثر أي شكل من أشكال المساعدات الإنسانية الأساسية".
وأضافت: "الحمد لله، تمكنت من الدخول مع واحد من أبنائي الثلاثة إلى تركيا عبر معبر باب الهوى، فيما بقي ولداي الآخران عالقيْن في المعبر وتركتهما عند بعض الأقارب".
وتمنت ليلى أن يكون ما شاهدوه "آخر الأحزان وأن تبدأ حياة جديدة مع أسرتها خالية من الآلام".
وبدأت عملية إجلاء سكان أحياء حلب الشرقية المحاصرة في 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إلا أنها واجهت عراقيل، تبادل النظام والمعارضة الاتهامات بشأنها، الأمر الذي عطل العملية مراراً.
وفي ساعة متأخرة من مساء الأحد الماضي، وبعد تعثر استمر 3 أيام، استؤنفت عملية الإجلاء بموجب اتفاق جديد بوساطة تركية-روسية، بين المعارضة السورية والميليشيات الأجنبية الموالية للنظام.
ويشمل الاتفاق بلدات "مضايا" و"الزبداني" بريف دمشق (تحاصرهما ميليشيات حليفة للنظام) و"كفريا" و"الفوعة" بمحافظة إدلب (تحاصرهما المعارضة).