عندما شنَّ مسلحو تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) هجوماً قاتلاً في قلب مدينة الكرك الأردنية يوم الأحد الماضي، 17 ديسمبر/كانون الأول، مُقتحمين قلعة الكرك، التي يعود تاريخها إلى عصور الحملات الصليبية منذ مئات السنين، ومتفوقين على قوات الشرطة، رد سكان المدينة على الهجوم بطريقةٍ يندر أن يُرَى مثلها في هذه المنطقة.
فقد حملوا الأسلحة، وواجهوا مقاتلي التنظيم.
وبينما كان الجميع ينتظر قرابة الساعة حتى تصل القوات الخاصة إلى المدينة الواقعة جنوب الأردن، ووسط وابلٍ من الرصاص العشوائي القادم من على أسوار القلعة، حمل عشرات المدنيين العاديين مسدساتهم المُرخَّصة والهراوات والحجارة، في محاولةٍ لجذب مسلحي تنظيم داعش للخروج من أماكنهم، بحسب تقرير نشرته مجلة The Christian Monitor الأميركية.
لم يتوقف سكان الكرك عن محاربة عناصر التنظيم مع قدوم القوات الخاصة. إذ انتشرت العديد من مقاطع الفيديو على الشبكات الاجتماعية، يظهر فيها المدنيون وهم يقتحمون أبواب القلعة بجانب قوات الأمن ويصيحون: "حياتنا ليست أغلى من حياتكم. دعونا نواجههم معاً"، معبرين عن رغبتهم في مشاركة الشرطة عبء القتال ضد التنظيم.
وتقول مصادر أمنية إنَّ الشرطة حاولت منع عشرات المدنيين من الدخول إلى القلعة، لكنها كانت غير قادرة في بعض الأحيان على صدهم.
ويقول محمد الصرايرة، أحد سكان مدينة الكرك: "عندما رأينا مُسلحين يستولون على القلعة، كان لدينا رد فعل واحد وهو أننا لا نريد لمدينتنا أن تصبح موصل أخرى"، في إشارةٍ إلى مدينة الموصل التي تقع في شمال العراق، وتُعَد أقوى معاقل تنظيم داعش منذ أكثر من عامين.
واستمرت الاشتباكات بين مسلحي تنظيم داعش وقوات الأمن على نحوٍ متقطع طوال هذا الأسبوع بداخل مدينة الكرك وبالقرب منها، ما أسفر عن مقتل 13 أردنياً وسائح كندي. ووفقاً للتقارير، حمل المدنيون أسلحتهم مرة أخرى خلال هذه الاشتباكات، وقال الأردنيون إنَّهم واجهوا الحادث الإرهابي بأعظم أسلحتهم: التماسك الاجتماعي.
فبعد مشاهدة مصير المدن والقرى والمناطق الواسعة في دولتي العراق وسوريا وهي تسقط في أيدي التنظيمات الجهادية، وينقلب سكانها ضد بعضهم البعض، سعى الأردنيون نحو الاتحاد لمواجهة تنظيم داعش.
المجتمع أولاً
تقرير نشرته صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأميركية نقل عن حسين محادين، أستاذ علم الاجتماع بجامعة مؤتة، وأحد سكان مدينة الكرك التي تتسم بأنها مجتمعٌ مختلط يجمع بين المسلمين والمسيحيين، قوله عن هذا الهجوم: "ارتكب تنظيم داعش خطأً عندما لم يقرأ تاريخ الأردن. تمتلك مدينة الكرك، والأردن ككل، تجربةً للعيش المشترك والمتجانس بين أديان وخلفيات ثقافية مختلفة. أي شيء يهدد هذا التناغم يُعَد تهديداً للمجتمع كله، وسيتم مواجهته".
ويقول الأردنيون إنَّ فخرهم بوطنهم واستعدادهم لوضع مصلحة مجتمعهم أولاً يمنع تنظيم داعش من كسب موطئ قدم وفرض حكمهم الإرهاب في الأردن.
ويقول حسن أبوهنية، الخبير الأردني في الحركات المتطرفة: "على النقيض من سوريا والعراق وحتى ليبيا، حيث استغل تنظيم داعش الانقسامات العميقة داخل المجتمع، فإن الأردنيين، الذين يأتون من خلفياتٍ مختلفة، تجمعهم الوحدة الوطنية والواجب في أوقات الشدّة. ورغم انضمام بعض الأردنيين إلى تنظيم داعش، فإن المجتمع ككل يقف سوياً لمحاربتِه".
وبينما يوشك الأردن على الدخول في حربٍ مع تنظيم داعش على أرضه، يقول الخبراء إنَّ هذا التضامن سيكون مفتاح هزيمة التنظيم.
ويسهم التعداد السكاني للأردن الصغير نسبياً، والبالغ 9 ملايين نسمة، وانتشار علاقات المصاهرة بين القبائل والعائلات المختلفة على الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن، بما فيها الأقليات المتنوعة التي فرت إلى البلاد في عشرينات القرن الماضي، في جعل البلد وكأنها عائلة متماسكة في أوقات الأزمات.
يقول نبيل الشريف، المحلل ووزير الإعلام الأردني سابقاً، عن هذه الحالة: "إذا واجهت العائلة تهديداً، ينهض كل أفراد العائلة لمواجهة هذا التهديد. وهذا ما رأيناه في السلوك البطولي والنبيل في الكرك، عندما كان الناس على استعداد لوضع حياتهم على المحك لحماية مدينتهم".
المدنيون على الجبهة الأمامية
حذر وزير الداخلية الأردني سلامة حماد المدنيين من الاشتراك في العمليات، ودعاهم إلى السماح "للقوات الخاصة المدربة" بتنفيذ هذه "العمليات الصعبة للغاية".
كان الظهور الأول لشعور التضامن بين الأردنيين في مواجهة مسلحي تنظيم داعش في فبراير/شباط عام 2015، عندما أحرق التنظيم الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً، وخرج حينها آلاف الأردنيين للتظاهر ضد داعش، ودخلت البلاد في حالة حداد وطني.
هذا الشعور بالواجب الوطني، الذي يتجلى في قيام المواطنين بدور الرقابة المجتمعية وتحذير السلطات في حالة وجود أي سلوك مريب، جعل مدنيي الأردن جبهة أمامية نشطة وفعالة في الحرب ضد الإرهاب.
وأُحبطت خطط تنظيم داعش لتنفيذ هجماتٍ في الأردن على نحو متكرر خلال العام الحالي.
وكانت معلومةٌ إرشادية من مالك أرض وأبنائه، بعد أن شمُّوا رائحة بارود، هي ما ساعد الشرطة في اكتشاف مسلحي الكرك في شقتهم المستأجرة على بعد 20 ميلاً شرق مدينة الكرك يوم الأحد الماضي.
ويقول المحققون إنَّ المسلحين كانوا يُعدّون كمياتٍ كبيرة من المتفجرات، ويُكدّسون أكوام من الأحزمة الناسفة والأسلحة التي يقول وزير الداخلية إنَّها "كانت ستُهدِّد الأردن كلها وليس الكرك وحدها". ووفقاً لكل الروايات، منعت إفادة مالك الأرض حدوث هجومٍ ومأساة أكبر.
وفي شمال مدينة إربد في مارس/آذار الماضي، أدت معلومةٌ عن مجموعة من الشباب المشتبهة فيهم، والذين انتقلوا إلى شقةٍ مستأجرة بالحيّ، إلى الكشف عن خلية منتمية لتنظيم داعش. وبعد 7 ساعات من تبادل إطلاق النار، الذي أسفر عن مقتل شرطي و7 مسلحين، كشفت السلطات عن مخبأ أسلحة ومتفجرات كانت مُعدة على الأرجح لاستخدامها في عمليةٍ كبيرة.
وفي يونيو/حزيران الماضي، نجح حارس غابة خارج الخدمة في القبض على مسلحٍ كان قد قتل 5 ضباط استخبارات في وقتٍ سابق من نفس اليوم.
ويقول أبوهنية إنَّ "المجتمع المدني أحبط عملياتٍ إرهابية حتى الآن في مدينة الكرك، وإربد، ومخيم البقعة. كُشفت كل هذه العمليات بواسطة المدنيين، وليس أجهزة الأمن. إن هذا التعاون بين المجتمع وأجهزة الأمن أمراً لا تشاهده كثيراً في الدول الأخرى بالمنطقة، ما جعل المدنيين في خطوط المواجهة الأمامية لقتال تنظيم داعش".
وصمة عار الإرهاب
برهن الأردنيون على رغبتهم الحثيثة في محاربة تنظيم داعش، حتى لو كان هؤلاء المسلحون إخوانهم، وأبنائهم، وأبناء عمومتهم.
وفقاً لتقديرات عدة مسؤولين، يقاتل حوالي 3000 أردني تحت لواء تنظيم داعش في العراق وسوريا، ما يجعل الأردن موطناً لأكبر عدد من مقاتلي داعش بالنسبة لعدد سكانها مقارنةً بأي دولة أخرى في العالم. انضم بعضهم للتنظيم مدفوعين بنقص الوظائف المتاحة، أو الشعور بواجب الدفاع عن المسلمين السنّة.
لكن وصمة العار المُلتصقة بالإرهاب والتطرف نفّرت العائلات والقبائل عبر البلاد، الذين يرون أنها تلطخ شرف المجتمع كله. وأدى هذا إلى تبرؤ العديد من القبائل والعائلات من أبنائهم الذين انضموا إلى صفوف داعش.
ووفقاً لتسريباتٍ نشرت بالصحف المحلية، فإن من بين المسلحين الذين اقتحموا قلعة الكرك 4 أشخاص من المدينة نفسها أو لديهم أقارب في المنطقة، وأكدت أفراد عائلاتهم ذلك.
وفي بيانٍ لها، رفضت عائلة أحد مقاتلي داعش المزعومين، ويُدعَى محمد الخطيب، من سكان الكرك، تسلم جثمان ابنهم أو دفنه يوم الثلاثاء الماضي، مستنكرين انتمائه الإرهابي.
وقالت العائلة في بيانٍ لها نشرته الصحافة المحلية يوم الثلاثاء الماضي: "نحن أبناء قبيلة الخطيب نستنكر هذا الفعل الإجرامي الذي لا علاقة له بالدين أو بقبيلتنا. على مدار 150 عاماً، لم نعرف سوى الولاء والإخلاص إلى وطننا حتى من قبل تأسيسه.. لذا نرفض استلام جثمانه".
إن وصمة الإرهاب، والمساندة الأصيلة الوافرة لأجهزة الأمن جعلت السلفيين المتشددين والجهاديين غير مرحب بهم في الأردن، حتى أن المتشددين أنفسهم يقولون إنَّهم لم يواجهوا مناخاً في المملكة من قبل بهذا "القدر من العدائية".
ويقول محمد شلبي، قائد إحدى جماعات السلفية الجهادية المتشددة في الأردن، التي تنحاز لفكر تنظيم القاعدة، لكنها تنتقد داعش، إنَّ"المناخ الحالي لا يسمح لمناصري تنظيم داعش بالاجتماع، أو التحدث، أو حتى التفكير بشأن فعل شيء ما في الأردن. لقد بات كل من يناصر أيديولوجيا السلفيين عرضةً للاشتباه من قبل الشرطة والشعب".
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة The Christian Monitor الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.