نعم هناك مدنيون تألموا، حتى صارت جرائم الحرب أمراً اعتيادياً في بلادهم.. إنهم هؤلاء السوريون الذين ينعى جيمس سورين، مدير المركز الإسرائيلي البريطاني للأبحاث والاتصال، على بريطانيا التردد في التدخل في بلادهم في الوقت المناسب.
ولكن سورين، المتحدث السابق باسم نائب رئيس الوزراء البريطاني نيك كليغ، لا يرى أن الهدف من التدخل كان حماية المدنيين السوريين فقط، وإنما لفرض "قيم" بلاده، وتأمين الهزات الارتدادية التي سيتأثر بها العالم من الجرائم التي تقع في سوريا، والأهم لتجنب المشهد السياسي الذي وصل إليه الأمر وانتهى بتوسع النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة، مقابل انحسار النفوذ الغربي، الأمر الذي يهدد مصالح "حلفائه" في إسرائيل.
وفي مقاله بصحيفة التلغراف البريطانية أمس الإثنين 19 ديسمبر/ كانون الأول 2016، لفت سورين إلى مكاسب حزب الله اللبناني ايضاً، الذي استفاد -بحسب قوله- من القتال بجانب روسيا والميليشيات الإيرانية في سوريا، بتطوير قدراته القتالية، الأمر الذي يهدد -مرة أخرى- إسرائيل.
وفيما يلي نص المقال
في سبتمبر/أيلول من العام 2012، كُنتُ حاضراً في اجتماع مجلس الأمن الوطني في شارع داوننغ ستريت، وهو شارع شهير في قلب لندن يسكنه العديد من مسؤولي الحكومة. كان ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني حينها، يترأس نقاشاً بشأن الخيارات العسكرية في سوريا، حيث قُتل نحو 40 ألف مدني وهُجر الآلاف.
شرح رئيس أركان الجيش كيفية فرض منطقة حظر جوي فوق سوريا، وتوفير ملاذ آمن للاجئين. وبجواره، كان قادة الأجهزة الاستخباراتية يقيمون وضع جماعات المعارضة، وبعضها من جماعات المتطرفين الإسلاميين. وبعد مرور وقت طويل من تبادل وجهات النظر، وافق الوزراء على عدم التدخل العسكري في سوريا.
تمر الأيام سريعاً صوب تاريخ أغسطس/آب 2013، عندما استخدم رئيس النظام السوري بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه. هددت القوى الغربية حينها باتخاذ رد فعل عسكري. وفي تطور غريب للأحداث، وجدت نفسي في أفغانستان قبل ميعاد تصويت حاسم في البرلمان.
كان بريدي الإلكتروني ممتلئاً بمسودات خطابات النواب عن التدخل في سوريا. تزامن هذا التصويت مع زيارتي لآخر القواعد العسكرية العاملة، التي توجد فيها القوات البريطانية في ولاية هلمند الأفغانية، التي تجسد نهاية التدخل العسكري البريطاني في أفغانستان، الذي دام 12 عاماً.
أما في لندن، فقد وصلت الأحداث الدرامية إلى ذروتها عندما خسرت الحكومة تصويت البرلمان حول التدخل في سوريا، وعندما تراجع الرئيس الأميركي باراك أوباما عن تعهده بقصف الأسد.
لا تتخذ تطورات الأحداث في قضايا الشرق الأوسط عادة مساراً واضحاً. تتضمن الحرب الأهلية السورية عشرة صراعات منفصلة، وعدداً كبيراً من جماعات المعارضة التي تحارب من أجل إحكام سيطرتها على المناطق السورية. في 2012، كانت تحركاتنا مشلولة بسبب تعقيدات هذا المشهد واحتمالية أن تصبح إحدى جماعات المعارضة أخطر من النظام، وهو ما تحقق مع ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
وتعود جذور هذا الشلل إلى الصدمة التي واجهتنا في العراق، والتي نتج عنها أن حل الارتياب وتفضيل نهج التغيّر الحذِر والتدريجي محلَ غطرسة التدخل الليبرالي: انتابتنا الهواجس بشأن تقلّص قدرتنا على تحسين الأوضاع، ومحدودية قدرتنا الاستخباراتية، وأصبحنا خائفين من فرض قيمنا.
كان رد فعلنا على ظهور تنظيم داعش بطيئاً للغاية. كان ينبغي علينا توفير ملاذ آمن للسوريين، لأنَّ تراخينا بعث رسالة مفادها أننا لا نريد دفع ثمن حماية المدنيين وفرض الشروط الإنسانية الملائمة. كانت نتيجة هذا أن أصبحت سوريا مَلعباً للشيطان وتحولت مدينة حلب إلى مأتم: قصف روسي عشوائي، وهجمات بغاز الكلور، وقوات حزب الله وإيران التي تذبح المدنيين العزل.
وعلى المدى القصير، أصبحت اليد العليا لنظام الأسد، وبدأ تنظيم داعش يخسر نفوذه في غربي سوريا والعراق. لكنّ تداعيات سقوط حلب، على المدى الطويل، أنه سوف يرسل موجات صدمة تمتد عبر الشرق الأوسط لعقود قادمة. أما من جنوا غنائم هذا الصراع، فهي روسيا وحزب الله وإيران.
عندما انسحبت الولايات المتحدة من المنطقة، تدخلت روسيا بلا رحمة. وفي تطور مذهل للأحداث، أصبح على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط حالياً أن تُمرَّر عبر التفاوض مع روسيا، التي بات نفوذها في تصاعد.
لقد شكَّل سقوط حلب مكسباً كبيراً لإيران، إذ بات بإمكانها الآن التباهي بأنَّ نفوذها يمتد من طهران ويمر عبر بغداد ودمشق وبيروت. أما حزب الله فقد راهن على نظام الأسد، ورغم تكبّده لخسائر ثقيلة في الحرب، فإنَّ الخبرة التي اكتسبها من خلال العمل بجانب القوات الإيرانية وتحت قيادة روسيا حوّلته إلى واحد من أكثر القوات المسلحة كفاءة في المنطقة.
وفضلاً عن كل ذلك، أكسب سقوط حلب صفة الاعتيادية على جرائم الحرب، بعد أن أصبح القصف الجوي العشوائي، واستخدام الأسلحة الكيميائية أمراً شائعاً في الحرب السورية. إذا قرر حزب الله استئناف حربِه مع إسرائيل، فلا يوجد سبب لافتراض أنه لن يكرر نفس الممارسات.
ربما لن تتوقف تداعيات سقوط حلب على صعود نفوذ الثلاثي المتحالف: روسيا، وإيران، وحزب الله. يجب أن نتعلم درساً قاسياً من التاريخ. عندما غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان في عام 1989، سلّحت الولايات المتحدة المجاهدين وأنتجت الحرب الأفغانية تنظيمي طالبان والقاعدة. استغرق الأمر سنواتٍ حتى بات الخطر ملموساً في نيويورك 2001، وفي لندن 2005. ربما كان نفوذ تنظيم داعش في تراجع، لكنَّ مقاتليه لن يحوّلوا سيوفهم إلى محاريث للأرض.
كيف سيتمكن داعش من إعادة تنظيم صفوفه؟ ما المساحة غير المحكومة التي سوف يعمل خلالها؟ سيناء؟ الجزائر؟ تونس؟ تتصاعد قوة تنظيم القاعدة وسط الصراع السوري الطاحن. وفي غضون 10 أو 15 عاماً، كم من الآلاف سيُجندهم التنظيم للثأر لأطفال حلب؟ وما المناطق التي سيستهدفونها؟ موسكو؟ واشنطن؟ لندن؟
إنَّ الدرس الحقيقي الذي يجب أن يتعلمه القادة الغربيون من حلب، هو التوقف عن اتباع سياسة التدخل التدريجي الحذر. وبالإضافة إلى تقييم مخاطر اتخاذ أي رد فعل حالياً، نحتاج إلى التعامل المتوازن مع المخاوف بشأن التأثير المستقبلي المدمر لتراخينا عن الفعل، لأنَّ الرسالة التي نرسلها للعالم قد تكون لها تداعيات مخيفة.
سرعان ما ستتكشف السياسة الانعزالية المحيرة الرافضة للخوض في الحرب بالشرق الأوسط، التي يتبناها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. يشعر حلفاؤنا في إسرائيل ودول الخليج بالخوف، في وقت بدأت فيه بعض أخطر القوات بالمنطقة التحلي بالجرأة. لقد حان الوقت الذي يجب أن تقرر فيه بريطانيا القيم والمصالح التي تستعد للقتال من أجلها.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Telegraph البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.