انتصار جديد للفاشية العربية في سوريا هذه المرة، سوريا التي دائماً ما ادّعى نظامها "الأسدي" مرجعية الممانعة، "هؤلاء عملاء للإمبريالية العالمية يجب دحرهم"، طبيب العيون النيوليبرالي المتعاون بشدة مع الغرب يدّعي كما ادّعى أبوه طوال الوقت أحقّية النظام بالاستمرار في الحكم؛ لأنه وكما يُقال: الحصن الأخير في مواجهة الاستعمار الغربي ودحر "الصهيونية".
"الجيش العربي السوري" – هكذا يُقال، هو أيضاً الدرع الأخيرة في سبيل الحفاظ على حدود البلاد ضد الأجنبي، الأجنبي الذي استدعاه النظام مِراراً ممثلاً في قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني.
قد تتوقف بروباغندا النظام – الذي دائماً ما ادّعى علمانية تنبذ الطائفية – عاجزة أمام الحرب الطائفية التي أشعلتها ولاية الإيرانيين ونفخت فيها الأبواق الإعلامية الحديث عن مؤامرة كونية، حرب أشعلتها أذرعه الأمنية التي ما لبثت أن أطلقت أيدي الأصوليين المتطرفين من السجون مع بدايات الثورة – عيسى الشيخ، زعيم لواء "صقور الإسلام" وأبي عبد الله الحموي زعيم حركة "أحرار الشام"، أطلق النظام سراحهم في ربيع 2011 من سجن صيدنايا، تماماً كما فعل نوري المالكي في العراق مع بداية الاحتجاجات السنية في العراق عام 2008 حين أفرج عن أبو محمد الجولاني، أحد قادة تنظيم القاعدة حينئذ ومؤسس ما عرف بـ"جبهة النصرة" أو "فتح الشام" فيما بعد، وذلك بعد ارتحاله إلى سوريا مع انطلاق الثورة.
الثورة التي هتفت تماماً كما هتفت رفيقاتها في أنحاء العالم العربي "بالعيش والحرية والعدالة" للجميع، للمواطن الذي انتهكته أجهزة المخابرات طوال الوقت.
نجحت فزّاعة بشار في تحقيق غايتها، صَدّر حربه كحرب مُقدسة على الإرهاب، نجحت مشاهد الرعب والفزع التي بثتها بروباغندا داعش وكل فصائل الإسلاميين الراديكاليين – الذين نشأوا تحت ولاية النظام – في إرهاب العالم بقدر أكبر من حاكم مختل يقتل شعبه علانية ويفتخر ببقائه على رأس الحكم.
نجحت نقود الطائفيين على امتداد الخليج العربي في طعن القلب العميق للثورة، لم يشأ نظام الاستبداد السعودي الرجعي ثورة قد تمتد إلى عقر داره، لعبة مصر، البحرين، واليمن ذاتها تكررت في سوريا مع بداية الثورة حين دعمت السعودية بقاء الأسد، حتى تدخلت إيران لتخلط الأوراق، وتقلب عداء السعودية المُبطّن للثورة تأييداً لولبياً هدفه الحفاظ على المصالح ضد الخصم الإقليمي الأكبر، مع تحويل العملية الثورية الديمقراطية القالب، التي أنذرت بفناء أبشع نظام استبدادي عربي إلى مجرد نعرة طائفية -يغذيها الإعلام- قتالاً من أجل السنة، تماماً كما يقاتل الإيرانيون والعراقيون والأفغان الشيعة من أجل الأضرحة.
الحنين إلى حلب
"لتعيش أحياناً يجب أن تقاتل، ولتقاتل يجب أن توسخ نفسك، الحرب شريرة، وعادة ما تكون الشر الأقل".
الروائي الإنكليزي اليساري جورج أورويل في روايته عن الحرب الأهلية الإسبانية: " الحنين إلى كتالونيا".
كان أورويل مقاتلاً في صفوف الجمهوريين المناهضين للحاكم العسكري الفاشي فرانكو، حاز الجمهوريون حينها على دعم شحيح مشروط من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا، في حين حاز فرانكو على دعم سخي جداً من ألمانيا النازية وإيطاليا موسوليني الفاشية.
يحكي أورويل كثيراً على امتداد الرواية ما عانته قوات "c.n.t" و"p.o.u.m" -وهو تحالف اليسار من الشيوعيين التروتسكيين والأناركيين اللاسلطويين الذين كوّنوا طلائع للثورة ضد فرانكو في بدايتها- من الدعم الشحيح بالسلاح والذخيرة والترويج الإعلامي -السوفييتي الستاليني والغربي الرأسمالي- ضد الجيش الثوري الذي واجه قوات فرانكو بكل جدية وإخلاص، فقط لأن هذا التحالف كان يضم القلب الحقيقي للثورة، والذي هدد مفاهيم وطموحات ومكاسب كلا الجانبين -الداعم الجمهوري والعدو الفاشي النازي- من الحرب.. في النهاية انتصر فرانكو.
تماماً كما عانت وتعاني قوات الجيش السوري الحر الديمقراطية القالب من تغييب وإهمال ودعم شحيح، صب في كفة الحركات المتطرفة والنظام بالطبع، أراد كل جانب دعم ما يحقق مكاسبه على الأرض، استمرت روسيا – التي تريد الحفاظ على الحليف الوحيد الذي يحفظ لها دوراً في المنطقة – في دعم النظام مادياً وعسكرياً.
إيران تقتطع أجزاء من أرض أي دولة عربية -تحت شعارات ومبررات طائفية شيعية- كلما سنحت لها الفرصة فكانت أقوى داعمي النظام بمقاتلين من النخبة وبالسلاح.
السعودية بدورها دَعّمت رؤيتها للإسلام السلفي الوهابي ممثلة في "جيش الإسلام" وفصائل أخرى موالية له للحفاظ على حق تفاوض يحافظ على خطوط مرور النفط السعودي من سوريا، تركيا دعمت الفصائل المعارضة المعتدلة نسبياً؛ حيث تركز الدعم بصورة أكبر على المناطق المحدودة مع أكراد سوريا، كان الهدف هو تقويض الأكراد -العدو الأول للحكومة التركية- في سوريا وتضييق الخناق على شبكات الاتصال بينهم وبين أكراد العراق.
الولايات المتحدة دعمت وحدات حماية الشعب الكردية بأولوية دحر داعش.
الخلاصة هي أن كل اللاعبين على الساحة السورية لم يدعموا رأس الحربة المعبر عن الثورة بالفعل "قوات الجيش السوري الحر" العلمانية التي ضمت قيادات ديمقراطية تمت تصفيتها بمرور الوقت -سواء بالقتل أو الاعتقال- ليبقى المتصدر الرئيسي للساحة القادة الإسلاميين المتطرفين أحراراً طلقاء، ليتم تصدير الثورة وكأنها ثورة إسلامية متطرفة سوف تحمل الأصوليين المتطرفين متصدري قوائم الإرهاب الدولية إلى الحكم، وهو ما نجح النظام السوري في استغلاله كمبرر للقمع بمنحنى متزايد باطراد دائماً.
لماذا حلب؟
السؤال الذي وجب طرحه منذ البداية هو: هل كانت الحرب ضرورية بالفعل ولا مفر منها من أجل الثورة؟ الإجابة في رأيي هي نعم التي تطرح تساؤلاً مهماً حول إمكانية استسلام نظام قمعي -حكم لمدة 40 سنة بالحديد والنار- هكذا دون مقاومة!
تجربة الربيع العربي تؤكد لنا أن الأنظمة تقاوم تماماً كما الشعوب، وأن النظام على استعداد للتضحية بطول البلاد وعرضها وبنيتها التحتية من أجل البقاء، أجهزة الدولة في المنطقة أصبحت معقدة ونرجسية إلى درجة تدفعها للتضحية بالمواطنين والحدود في مقابل الحفاظ على جهاز الدولة قائماً كما كان.
حلب كانت النموذج التي دمر أسطورة أن الدول بشكلها الحالي هي الوحيدة القادرة على تعميق الاستقرار والتنمية – التي فشلت دائما في إحداثها- شُكْلِت المجالس المحلية المنتخبة ديمقراطياً بعد طرد النظام من المدينة في 2012، قَدّمت المدينة نموذجاً للإدارة التعاونية الناجحة، شُكلِت المحاكم المستقلة التي حاول المتطرفون من الإسلاميين مجابهتها بمحاكم شرعية قوّضتها مقاومة الثوار المسالمين والمسلحين من أهل المدينة الذين طَردوا فيما بعد مسلحي داعش من المدينة في عام 2014، وهو ما عجز كلا النظامين -السوري والعراقي- عن فعله في أي من المدن الواقعة تحت سيطرة التنظيم الرجعي.
حلب كانت النموذج الثوري النابض بالحياة الديمقراطية البعيدة عن فاشية النظام الوطنية وفاشية المتطرفين الدينية، وهو ما لم يكن مقبولاً بالمرة من قبل النظام العالمي الذي يتغذى حول الوطنيات والقوميات الفاشية المزعومة من جهة، والحرب على الإرهاب الأصولي من جهة أخرى.
حلب هي شاهد القبر -الأخير ربما- على ثورة مغدورة أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.