شِئنا أم أبَينا الدين في المغرب هو المجتمع، وليس فقط جزء منه، وهذا الأخير متدين بطبعه، بالتالي فأي عملية تغيير أو تطوير للأخير لا يمكن أن تتم دون تغيّر وتطور المجتمع، ببساطة لأن هذين الشيئين لا يمكن أن يفصل بعضهما عن بعض، بل الأكثر من ذلك أي محاولة لعملية من هذا النوع ستكون نتائجها عكسية وربما مدمرة.
فما تقوم به الدولة حالياً من مساعٍ "للتحكم" أو السعي نحو ضبط الحقل الديني تحت ما يسمى رسمياً "هيكلة الحقل الديني" هو منتهى العبث بعينه؛ بل إن النظام بما يقوم به حالياً يوفر المجال والتربة الخصبة فقط لتكاثر أنماط وأشكال تدينية جديدة ودخيلة على المجتمع بما يستحيل مستقبلاً ليس فقط التحكم فيها بل حتى إدارتها وتنظيمها.
فلا يكاد يمر علينا أسبوع إلا وتتخذ فيه وزارة الأوقاف إجراءات وتدابير "عقابية" ضد الكثير من الخطباء والفقهاء في المساجد بدواعٍ وتبريرات مختلفة، وهذا بإيعاز وضوء أخضر طبعاً من أعلى سلطات البلد، وهو الأمر الذي يشكل في حقيقته جهالة تامة من هذه الأخيرة بمدى خطورة تلك الخطوات والتدابير على الاستقرار والأمن الحقيقي للبلد.
فقد يمتلك وزير الأوقاف السلطة على توقيف فقيه أو مرشد أو خطيب أو أي ممن يشكلون الحلقة الأضعف داخل الحقل الديني عن مهامه، لكن من الغباء والسذاجة أن نعتبر أن بمثل إجراءات كهذه سنتمكن فعلاً من معالجة الأخطاء أو الأفكار والسلوكيات المتطرفة لبعض هؤلاء.
فمعنى أن توظف السلطة السياسية وتُرغم رجال المنابر على نوع معين من الخطب (غالباً ما تكون تلك الخطب التي تدور في فلك النظام وتخدم الأيديولوجية الرسمية دون أن تكون لها بالضرورة علاقة بحاجات المواطن وحياته اليومية)، فأنت بذلك تفتح الباب على مصراعيه أمام عملية كبيرة "للجوء الديني" نحو تيارات ومذاهب أشد تطرفاً وأكثر انحرافاً، ومن ثم بدل أن تعالج مشكلة ستفتح مشكلة كبيرة قد لن نجد لها حلاً بعد ذلك.
المسجد بالنسبة للنظام السياسي هو في الأول والأخير لا يعدو أن يكون مجرد وسيلة وآلية ذات فاعلية كبيرة لتدعيم السلطة، ويتم ذلك في العادة من خلال توظيفه لتطويع واستمالة العوام في كنف الأيديولوجية الرسمية، وذلك في الغالب بما يمنح نوعاً من الشرعية الدينية على المنصب السياسي، والجميع بالطبع يعي ماذا يعني ذلك من قوة وسلطة روحية ودينية للحاكم؛ حيث يمنحه سلطة كبيرة لدرء أي معارضة أو "خروج عن الطاعة" من أي كان ما دام أن كل شيء حسب منطق جزء كبير من العوام يتم "وفق شرع الله وبما يرضي الله".
لذلك نجد من السذاجة التصديق بالرواية الرسمية على أن الكثير من التدابير والإجراءات العقابية المتخذة ضد الكثير من الخطباء والفقهاء -التي غالباً ما تكون بشكل تعسفي ودون أدنى احترام لحقوق هؤلاء في التظلم والدفاع عن أنفسهم- تروم فعلاً إلى إصلاح الحقل الديني وتجويده؛ إذ إننا نعتقد أن الغاية والهدف الأساسي والحقيقي للنظام السياسي هو كيف يجعل المسجد في خدمة الأيديولوجية الرسمية؟
لكن الإشكال الأكبر ليس في توظيف النظام له لخدمة أجندته الخاصة فقط، لكن نعتقد أن أكبر مشكلة وأكبر تهديد للبلد هي في عدم وعيه بأهمية وحساسية "المسجد" بالنسبة للمواطن البسيط؛ إذ بالنسبة لهذا الأخير فوظيفة المسجد تتجاوز وتعلو حتى على وظيفة الدولة نفسها.
فعلى العكس من تعاطي وعلاقة الحاكم به، تبقى علاقة المواطن البسيط بالمسجد هي على غير علاقة رجل السياسة، بل يمكننا القول إن الاثنين على النقيض تماماً في هدف وغاية كل واحد منهما منه.
فالمسجد بالنسبة لذلك المواطن -وهو ما يتجاهله في العادة السياسي ولا يدرك حساسية هذه المسألة- بمثابة المتنفس والمصحة الروحية التي يجد فيها راحته ويفرغ فيها جزءاً كبيراً من همومه ومشكلاته وكروبه اليومية والتي يتحمل ذلك السياسي نفسه الجزء الأكبر منها، فالمسجد هو المؤسسة التي تلعب دور مصاص الغضب والاحتقان ضد ممارسات السياسي.
وهذا ما يعني بشكل آخر أن أي إجراء أو عملية يمكن أن يؤثر أو تمنع ذلك المواطن من هذا المتنفس هو وصفة جاهزة لثورة وانفجار ذاك المواطن، أي أن إجراءات وزير الأوقاف الطائشة وغير المحسوبة هي التي يمكن أن تجعل أمن واستقرار البلد على المحك أكثر من خطب الفقهاء على المنابر، فالمواطن البسيط يمكن أن يصبر على كثير من الأشياء إلا على الأشياء التي تمس دينه.
فالشيء الذي قد لا يعي النظام خطورته هو أن غضب المساجد هو الوحيد الذي لن تستطيع الدولة ولا أجهزتها إخماده لو قدر الله وخرج عن السيطرة، فما لا يعرفه وزير الأوقاف أن المسجد بالنسبة للمواطن العادي هو الشيء الوحيد الذي لا يزال يمنعه من الوصول لمرحلة الانفجار.
فإذا كان لا بد إذاً مما يطلق عليه "هيكلة الحقل الديني" وهذا نجده نحن كذلك ضرورياً وذا أولوية، فالأولى هيكلة الأشخاص الساهرين على تسييره وهيكلة عقليتهم التصادمية التي تتعامل مع موضوع حساس للغاية باستخفاف ولا مسؤولية.
وإذا كان لا بد فعلاً من إعادة النظر والقيام بعملية نقد ذاتي للموروث والحقل الديني، فالأمر يجب أن يكون بتجرد وبكل موضوعية بعيداً عن كل ما يمكن أن يجعل الأمر بيد السلطة وبما يحول دون استغلال ذلك فيما يخدم ويوظف سياسياً من طرفها.
مهمة الدولة في هذا الجانب يجب أن تقتصر فقط على إدارة الحقل الديني وليس التحكم فيه أو فرض نمط معين دون غيره من أشكال التدين، وإذا كان ولا بد من التدخل فيجب أن يكون من الباب التنظيمي وما يحول دون الخروج عن ضوابط وأسس عامة تم الاتفاق عليها مسبقاً بين كل الأطياف الدينية داخل المجتمع، وليس تلك الضوابط والقواعد التي توضع من قِبل السلطة والنظام السياسي، والتي في الغالب تكون فيما يخدم مصالحه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.