أحداث حَلَب الدامية وكعادة ناتِج المعادلة السورية منذ سنوات، ومن بعد الدمار ورائحة الموت الغالبة على رائحة احتراق مصاحف المساجد ودفاتر الطلبة وإنجيل النصارى، سيكون هناك عدد آخر من الهاربين إلى المجهول، وقد يكون هذا الهروب أخطر من قنابل بشار العنقودية.
أتذكر ما قاله عُمدة مدينة "أسوثالوم" المَجَرّية وأنا أُشاهد اليوم نُزوح الآلاف من حلب: "المجر هي أسوأ خيار ممكن أن يختاره اللاجئون السوريون، ومدينة أسوثالوم ستكون أسوأ بكثير من سوريا"، وأضاف أن أي لاجئ يريد العبور لألمانيا فليختَر كرواتيا أو سلوفينيا كمعبر.
وهو يُدلي بهذه الشهادة العنصرية المَقيتة، كان يستعرض قوته العسكرية والشرطة التي وضعها على الحدود، وأترك المجال مفتوحاً لمن أراد أن يجمع بين مقالي المكتوب وبين الصوت والصورة، فليبحث باسم العمدة على النت؛ ليوثق للضرب الذي يتعرض له اللاجئون في المَجَر، مع العلم أن للشرطة الصلاحية في استعمال الرصاص المطاطي ضدهم، حسب القانون المصادق عليه.
لن أتحدث هنا عن الدماء والأشلاء، وعن اليتامى والثكالى، لن أُلقي الضوء عن عَمَّار الذي قتلته رصاصة الغدر ليلة زفافه، ولا عن مريم الصغيرة التي ماتت وهي تحاول إنقاذ دميتها من الحريق؛ بل سأَغوص في ماضي الدول التي تقتل اللاجئين الذين فَرّوا بما بَقِي لهم من روح، وقد كلّفَت ميليشيات بكلاب وسيارات جيب وأسلحة، يعترضون سبيلهم في الغابات والطرقات، فيسرقونهم ويقتلونهم، وكم شاهدنا من صور وفيديوهات للموتى السوريين في طريق البحث عن وطن.
أوروبا الشرقية، التي عافَت اللاجئين وتَكَبّرت عليهم، هل تناسوا ماضيهم؟ نسوا الحرب العالمية الثانية التي ما زال بعض جنودها شُهوداً؟ ونَسوا اللجوء الذي عاشوه، والذي كان إنسانياً أكثر منه سياسياً.
يكفي أن تذكر لأي أوروبي (مخيم the lehrter Strasse) وستعود به الذاكرة لأيام التشرد والحرب والمجاعة التي قَضَت على نصفهم.
ضاقَت بهم الأرض أكثر مما ضاقت بهم أوروبا، ولم يجدوا ملجأً غير هذا المخيم في مدينة برلين سنة 1945م.
بلجيكا، ولولا تدخل القوات الأميركية التي أنقذتهم من نيران الحرب لما وجدتَ جنساً بلجيكياً الآن.
بولندا، هل ستصدقني إن قلتُ لك أن 150 شخصاً هم من استطاعوا أن ينفذوا بجلدهم أحياء ويهربوا في 14 ديسمبر/كانون الأول 1945م، وجلسوا بجانب السكة الحديد حتى تقلهم القطارات لبر الأمان مع العلم غالبيتهم كانوا يموتون برداً وجوعاً.
فرنسا، وفي 22 يونيو/حزيران 1940م، التاريخ الذي يُذكرنا بالهدنة بين فرنسا وألمانيا، والتي من خلالها دخلت ألمانيا فرنسا، وخوفاً ترك الفرنسيون باريس للألمان وتاهوا في الأرض يبحثون عن ملجأ لهم.
البرتغال، هربهم كان (عالمياً)، فقد ركبوا البواخر واتجهوا صوب فيلاديلفيا الأميركية رغم أن الغواصات الألمانية تلاحقهم.
سويسرا، وصربيا، والمجر والنمسا، أمم من الناس هاجَرتْ جماعات وفُراداً خوفاً من الحرب والبطش والجوع الذي كان يقتلهم أكثر من الدبابات والرصاص.
نعود إلى إخواننا السوريين الذين فضَّلوا الموت براً وبحراً في محاولة للبحث عن ملجأ أوروبي على أن تَقِفَ في وجوههم الأحذية السوداء لعساكر العرب المتربعين على الحدود.
عدد الهاربين من سوريا لم يتعدَّ المليونين، منهم نحو 400 ألف هم فقط من يُطالبون باللجوء، هذا الرقم لا قيمة له أمام عدد لاجئي أوروبا أيام الحرب.
لسوريا تاريخ، وأرضها مباركة، وما يقع فيها ما هو إلا مَخاض "عَسير" سيخرج من بعده رجال الغد الذين سيبنون سوريا التي تَحَدَّت آلهة الحرب.
قبل أن أضع نقطة النهاية لمقالي هذا، فكرتُ أن أجعل منها علامة استفهام وأقول: "لو أن شعب فرنسا أو إسبانيا أو سويسرا طلب اللجوء وقصد الدول العربية، هل ستقف تلك الأحذية السوداء في وجوههم؟".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.