قنبلة الحقيقة

حتى أصبع يده الأصغر، لن يقول "لا" أبداً، سيترك الأشياء تمر، حتى السكين التي "يقص" بها الحشيش لن يستطيع استعمالها لتقشير تفاحة، سيكون على الآخرين التكفل بذلك. لن يعارض لا النظام ولا الفوضى، ولن يفهم أي شيء وفي أي شيء سوى في النوع: هل هو جيد أو مغشوش.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/17 الساعة 05:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/17 الساعة 05:52 بتوقيت غرينتش

حتى أصبع يده الأصغر، لن يقول "لا" أبداً، سيترك الأشياء تمر، حتى السكين التي "يقص" بها الحشيش لن يستطيع استعمالها لتقشير تفاحة، سيكون على الآخرين التكفل بذلك. لن يعارض لا النظام ولا الفوضى، ولن يفهم أي شيء وفي أي شيء سوى في النوع: هل هو جيد أو مغشوش.

لكن، "تعال لكي أريك الرعب" -القادم لا محالة، كما قال إليوت- لترى الحقيقة القادمة قريباً والتي ستجعلك تضع ما بين يديك جانباً إذا كنت مناضلاً حقيقياً، أن تحمل قليلاً من الأشياء وتسافر نحو جبال بلدك العالية وتبدأ في محو الأمية.. أمية الحقيقة.

هناك أطفال ومراهقون وشباب، ما إن تضع أمامهم مكبر صوت وDATA SHOW من أجل عرض فيلم أو أغنية حتى يقذفوا في وجهك قنبلة الحقيقة الوحيدة التي يعرفونها والتي بمساعدة معلميهم وفقيه الدوّار تحولت إلى دين، وستظل راسخة في أذهانهم إلى الأبد، وحين ستتوافر لهم الوسائل سيأتون بدورهم ليوزعوا علينا الحقيقة؛ حقيقة أن الموسيقى وكل الفنون حرام، باستثناء التلفزيون والمسلسلات المترجمة إلى الدارجة طبعاً.

قبل أكثر من عشرين عاماً، كنت أعيش في بيتنا بين أسرة محافظة جداً ومتزمّتة، أو هكذا تبدو للآخرين. لكن داخل البيت، كنا أحراراً، حيث جميع الفنون موجودة؛ ابتداء من قراءة كل أنواع الكتب حتى الممنوعة؛ والرقص، والشعر، والموسيقى بجميع أنواعها؛ والأفلام، والمسرح، والعزف على آلات موسيقية حقيقية ومتخيَّلة، والغناء؛ وتربية الكلاب والقطط وتشريح حلزون؛ والرياضة والقفز، وتسلق الأشجار؛ وصنع منحوتات من الجبس أو من عجين الطين؛ والقيام بالأشغال المنزلية من الصباغة على الثوب والتطريز والطبخ وصنْع وابتكار الحلويات. لم يكن هناك وقت للتفكير في الحقيقة.

الحقيقة الوحيدة، هي أن تقوم بالأشياء، حقيقة أن العمل هو الذي يغير الواقع، العمل وليس الثرثرة. كثير من البيوت المغربية -أعتقد- كانت على هذه الشاكلة ولو بدرجات متفاوتة. كان هذا قبل أكثر من عشرين سنة للأسف! خلالها، عمل النظام بجدٍّ لطرد كل الفنون وطرد الكتب والأعمال اليدوية من بيوتنا ليحل محلها فقيه الفضائيات أو دجال أو عشاب. العمل هو الذي يغير وليس الحديث، والأنظمة لا تثرثر بل تعمل.

الكثير من الآباء والشباب المغاربة صاروا يهدِّئون أعصابهم بقص الحشيش على "القرطة" نفسها التي تقص عليها الأمهات الخضراوات واللحم. عبر هذا الزمن الطويل من الخيبات والتردي، كان "الحشيش" هو الراعي الرسمي لامتصاص غضب كثير من المغاربة.

ولأنني أعتقد بالمَثل القائل إن "مَن داومَ على رذيلة أنجبت له رذائل أخرى"، فقد أنجب لنا الحشيش جيلاً من الصامتين عن الحق، جيلاً من الخوّافين. يجب حقاً على كل مناضل حقيقي أو افتراضي أن يحمل حقائبه ويتبرع بوقته من أجل التخفيف من وقْع القنابل القادمة من بعيد، يجب أن يذهب إلى الأعالي خارج الرباط وسلا وما جاورهما؛ ليرى الرعب وهو يستعد للإقلاع.

كان هذا هو حلم "شاه مسعود" قبل أن يُغتال، كان يحلم بأن يضع السلاح بعد أن حرر بلده من بين مخالب الاتحاد السوفييتي آنذاك؛ لأنه كان يرى من بعيدٍ مخالب أميركا والتطرف والتخلف قادمة، كان يريد أن يعود إلى بلدته الجبلية العالية ويصير مُعَلّماً؛ لأنه كان يرى من بعيدٍ الجهل وهو يستعد للإقلاع.

ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات "هافينغتون بوست" لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد