شركاء بالتاريخ والمصير.. قصة حلب والموصل من أعظم مدينتين بالشرق الأوسط إلى أكثرهما دماراً

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/17 الساعة 01:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/17 الساعة 01:39 بتوقيت غرينتش

300 ميلٍ فقط هي المسافة الفاصلة بين المدينتين اللتين أصبحتا تملآن الأخبار في الأشهر الأخيرة: الموصل في العراق، وحلب في سوريا. وهما الآن تواجهان هجوم حكومتين مختلفتين لاستعادتهما من جماعاتٍ مسلحةٍ.

في عملية عسكرية بدأت في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، سيطر تحالفٌ من القوات العراقية والمليشيات الكردية مدعوماً من الولايات المتحدة على بلدات في ضواحي الموصل، وهي التي كانت قد استولى عليها ونشر الإرهاب فيها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) منذ صيف 2014.

وهذا التحالف منخرِطٌ الآن في حرب استنزافٍ متواصلةٍ على أحياء المدينة. وفي حلب، حاصر النظام مدعوماً بضربات جوية روسية ومليشيات ترعاها إيران مناطق سيطرة المعارضة، وقصف مناطق المدنيين دون تمييز، ويبدو أخيراً على أعتاب استعادة المدينة بأكملها.

لكن تفاصيل الحكاية مختلفة. فقد اتَّخذت الحكومة العراقية تدابير لتقليل الخسائر المدنية في هجومها على "داعش". بينما لم تفعل مثلها القوات الموالية للأسد الذي يشرف على عمليات سحقٍ وحشيةٍ بحق مدن البلاد في ظل حربٍ أهليةٍ دمويةٍ تدخل الآن عامها السادس.

لكن هناك الكثير الذي يربط بين مصيري الموصل وحلب. فمع انقشاع المعارك، ستتكشَّف صور الدمار التي حلَّت باثنتين من أعظم المدن التاريخيةً في الشرق الأوسط أمام ناظرينا.

فآثار منطقة نمرود "كالح" التي تعود إلى ما قبل الإسلام تم تفكيكها وتخريبها بشكل منهجي بواسطة مسلَّحي "داعش". وفُجِّرت المواقع التوراتية المقدسة في الموصل.

أمَّا مدينة حلب القديمة، والتي كانت في يوم من الأيام أحد أبرز المواقع السياحية في الشرق الأوسط، والتي اشتهرت بأسواقها وبإحدى القلاع التي تعود إلى القرون الوسطى، فأصبحت مدينة أشباح تملؤها الأنقاض والدمار.

وبالنظر إلى التاريخ السالِف لهذه المدن، فإنَّ حجم الدمار مخيف. لقد صمدت هذه المدن لقرون في وجه الحرب والغزو والحصار والاستسلام.

وكتب ابن جُبير، الرحَّالة الأندلسي في القرن الثاني عشر، عن حلب: "كم من حروبٍ خاضتها، وكم من سيوفٍ شُهِرت ضدها؟". لكن وحتى في ذلك الوقت، وفي مدينةٍ مُحاطةٍ بالأسوار واقعةٍ على الخطوط الأمامية في مواجهة الحملات الصليبية، رأى ابن جُبير في حلب درجة استثنائية من المرونة والتكيُّف: "المدينة قديمة قدم الأزل ومع ذلك جديدة رغم أنَّها لم تتوقف أبداً عن كونها كذلك (…) إنَّها تبقى مدينة عجيبة! فهي تبقى، وملوكها يرحلون؛ فهم يهلكون، لكن هلاكها لم يُقدَّر بعد".

استباحة المدينتين

يمكن اقتفاء جذور حلب والموصل آلافاً من السنين إلى الوراء في منطقة عُرِف عنها أنَّها مهد الحضارات. وعلى عكس المدن الأخرى التي برزت كمراكز دينية مثل القدس، أو كمعاقل للنفوذ السياسي مثل دمشق وبغداد، كانت دمشق وحلب أولاً وقبل كل شيء مراكز تجارية بارزة.

هذا لا يعني أنَّهما كانتا بمأمنٍ عن الصراعات. فالمدينتان كانتا لفترةٍ من الزمن واقعتين تحت حكم أسرة تركية قادت معركة المسلمين ضد الحملة الصليبية الأولى.

وستتعرضان في وقتٍ لاحق للنهب والحروب الوحشية من قِبل أسراب المغول. وأثارت انتفاضة حدثت في القرن الثالث عشر ضد المحتلِّين المغول في الموصل رد فعلٍ تقشعر له الأبدان من جانب أمير الحرب سيئ السمعة هولاكو خان: فبعد أن قضى على الانتفاضة، أوثق زعيمها بجلد الغنم وتركه حرفياً ليتعفَّن في الشمس حتى الموت وتأكله (الهوام) الحشرات حياً.

واستباح القائد المغولي، تيمور، والمعروف أيضاً بـ"تيمورلنك"، حلب عام 1400. ووصف أحد المؤرِّخين الهجوم الوحشي بأنَّه "كالموسي على الشعر" و"الجراد على المحاصيل الزراعية". وتحدَّث آخرون بتفصيلٍ أكثر عن الذبح الجماعي للسكان المدنيين والاغتصاب الوحشي للنساء اللاتي اختبأن في مساجد المدينة. فأصبحت الشوارع "مستنقعاً من الجثث". ووفقاً لبعض التقديرات، كدَّس تيمورلنك كومةً من آلاف الجماجم خارج بوابات حلب.

ومع ذلك، بقيت المدينتان وازدهرتا مع بعضٍ من أعظم المواقع التاريخية فيهما. ووصلتا ذروتيهما كنهايات طرفية لطريق الحرير (طريق تجاري صيني) تحت حكم الدولة العثمانية.

وفي الغرب، كانت الموصل مشهورة للغاية. وكانت مرادِفةً تقريباً لبضائع الشرق، لدرجة أن الحرير الناعم الذي كان ينسجه النسَّاجون فيما يُعرف الآن بـ"بنغلاديش" أصبحت تُعرف بـ"الموصلين"، وهو اسمٌ مشتقٌ من الموصل.

وحلب أيضاً كانت مشهورة للغاية لدرجة أنَّه عندما أشارت إحدى الساحرات في مسرحية شكسبير "ماكبث" أو "Macbeth" إلى زوجة أحد البحَّارة قائلةً: "ذهب زوجها ربُّان السفينة النمر أو Tiger إلى حلب"، كان الجمهور على علم بثروات وروائع هذه المدينة المذهلة. وفي مسرحية شكسبير التراجيدية الأخرى "عُطيل" أو "Othello"، تُستَدعى حلب على أنها نقطة التقاء تضج بثقافاتٍ وشعوب العالم.

وقطنت كلا المدينتين أغلبيةٌ سكانية سُنّية إلى جانب تجمُّعاتٍ مُعتبَرةٍ للمسيحيين واليهود، فضلاً عن خليطٍ عرقيٍ مذهلٍ من العرب والتركمان والأكراد والأرمن وغيرهم. هذا التنوع كان جزءاً محدِّداً لشخصيتهم. وكان التعايش، وليس الصراع الطائفي، هو النمط الغالب خلال معظم تاريخهم.

روابط مشتركة

وقال فيليب مانسيل، المؤرِّخ ومؤلِّف كتاب "حلب: صعود وتهاوي أكبر مدن سوريا التجارية" أو "Aleppo: The Rise and Fall of Syria's Great Merchant City": إنَّ حلب "كانت حقاً المدينة العثمانية، آخر مدينة مختلطة (يسكنها خليط متعدد الأطياف والأعراق)، التي كانت العلاقات فيها جيدة للغاية".

وقال إنَّ العنف الطائفي لم يكن شائعاً في حلب في ظل حكم الدولة العثمانية: "على مدار بحثي، لم أجد سوى نزاع طائفي واحد في 1850، وآخر في 1919 لكنها كانت أعمال شغب أصغر حجماً".

وعندما تقاسمت القوى الأوروبية ممتلكات الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، طالبت فرنسا بضم كلٍ من الموصل وحلب، المدينتين صاحبتي الروابط التاريخية والثقافية، تحت وصايتها. لكن قضايا النفط وسياسات القوة الإقليمية (بين فرنسا وبريطانيا) سوف توجِّه بريطانيا في نهاية المطاف إلى السيطرة على الموصل وضمِّها إلى الأقاليم العثمانية القديمة في البصرة وبغداد لإقامة الدولة التي نعرفها الآن باسم العراق.

وستُضم حلب بعد ذلك إلى دمشق بواسطة الفرنسيين وتبقى الحاضِرة (المدينة الكبرى) الأخرى لسوريا، وكانت دوماً العاصمة التجارية التي نُحِّيت بعض الشيء عن مركز الثقل السياسي.

إنَّ تفكُّك هذه المجتمعات الحديثة في العراق وسوريا نتيجة لسياساتٍ حديثةٍ. لقد خلقت الحروب التي زعزعت الاستقرار والحكم الذي ولَّد يأساً فراغاً أمنياً وتمرداتٍ متطرفةً تؤرِّق الآن المنطقة. ووَضَع الحكم ضيق الأفق في بغداد ودمشق أساسات هذا التداعي الحالي، والذي أظهر السواد الأعظم من سكان المدينتين مشرَّدين بفعل الصراع. عندما ينتهي القتال في الموصل وحلب، فإن إعادة بناء ما تمت خسارته ربما يكون هو التحدِّي الأكبر.

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

تحميل المزيد