"الأصعب ليس أن تبقى حياً؛ بل أن يلقي عناصر النظام السوري القبض عليك ويتم اقتيادك إلى السجن. حينها، تتمنى أن لو متَّ بالقصف!". بهذه العبارة، لخّصت نيرمين الرعب الذي عاشته وهي تهرب من المناطق القابعة تحت سيطرة المعارضة في حلب إلى مناطق النظام.
نيرمين، التي طلبت عدم ذكر اسمها الحقيقي لأسباب أمنية، كانت إحدى الناجيات من القصف والتي تم اقتيادها إلى إحدى نقاط التجميع التي خصصتها قوات النظام السوري للمدنيين بعد سيطرتها على حي هنانو، والتي حدّثت "عربي بوست" عن الأيام السبعة التي قضتها هناك برفقة طفليها.
وكانت الحملة الأخيرة التي شنتها قوات النظام السوري، مدعومة بالطيران الروسي والميليشيات المقاتلة، على مدينة حلب (شمال سوريا)، اضطرت الآلاف من سكان المدينة إلى النزوح؛ هرباً من القصف العنيف والمستمر والذي تمكنت خلاله القوات المهاجمة من السيطرة على ما يقارب 90% من المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات المعارضة في السنوات الأربع الأخيرة.
اليوم الأول.. مَن هؤلاء المسلحين؟!
"خرجنا من المنزل دون أن نعرف ما الجهة التي تسيطر على الحي"، تقول نيرمين (34 عاماً)، التي كانت تقيم بحي هنانو ضمن القسم الشرقي لمدينة حلب، لـ"عربي بوست".
وبحسب نيرمين، فإن أصوات القصف تحوّلت مع ساعات الصباح الأولى إلى أصوات متقطعة من الرصاص، والاشتباكات التي كانت تحت النافذة هدأت.
حاولت السيدة الحلبية الاستعانة بالجيران، لكن البناء كان فارغاً، حزمت بعض الأغراض الضرورية، مصطحبة أطفالها وخرجت إلى الشارع؛ كانت تخشى أن تتجدد الاشتباكات فقررت الهروب بهم.
خلال الهروب/ رأت نيرمين مجموعة من المسلحين توجهت إليهم ظناً منها أنهم عناصر من "الجيش الحر"، ولكن المفاجأة أنهم من القوات الداعمة لنظام الأسد.
"عراقيون ولبنانيون هم من أجبرونا على الانبطاح أرضاً أكثر من 3 ساعات" -تقول نيرمين- "البرد شديد والأطفال جياع، توسلاتي لهم لم تجدِ نفعاً ولا حتى بكاء الأطفال، بدأ عدد المستلقِين على الأرض بالازدياد".
كان مقاتلو النظام يقومون بجمع من بقي من المدنيين في بيوتهم ويجبرونهم على الاستلقاء، ثمّ قاموا بنقلهم إلى أحد مستودعات المدينة الصناعية في الشيخ نجار بواسطة باصات صغيرة بيضاء.
تقول نيرمين: "كنا أكثر من 40 مدنياً في كل باص إضافة إلى الجنود، رغم أن أحدها لا يتسع إلا لـ24 راكباً! وخلال الرحلة التي استغرقت أكثر من ساعة، تعرضنا لكل أنواع الإذلال، بدءاً من الشتائم، وصولاً إلى الاعتداء بالضرب".
كان المكان عبارة عن مستودع كبير بجدران معدنية سوداء وأرضه من الأسمنت زادته برودة ووحشة بحسب وصف نيرمين، التي أوضحت أنهم كانوا أكثر من 150 محتجزاً، ضمنهم قرابة 50 طفلاً.
وكان المقاتلون قد صادروا هواتفهم الجوالة، وأغراضهم التي حملوها معهم لحظة الهروب وحتى أوراقهم الثبوتية، وقاموا بتسجيل أسمائهم في قوائم وأعطوا كل واحد من المعتقلين رقماً وبطانية عسكرية فقط، وطلبوا منا الجلوس دون إصدار أي صوت.
الخوف كان مسيطراً على الجميع، لم يجرؤ أحدنا على التحدث؛ خوفاً من وجود جواسيس للنظام، بعض النساء "بدأنَ يهمسنَ ما حفظوه من آيات قرآنية ويُتبعونها بنفخات متقطعة على أفراد عائلاتهم"، تقول نيرمين.
بعد ساعات دخل عناصر من المخابرات السورية إلى المستودع، كانوا أكثر من 10 مسلحين بلحىً طويلة، بدأوا باستدعاء الرجال الموجودين، واحداً تلو الآخر، وعلى مدى ساعات لم يبقَ في المستودع إلا النساء والأطفال دون سن الخامسة عشرة.
"أذكر تماماً كيف انهالوا بالضرب على أحد الرجال حين أصر على اصطحاب زوجته معه"، تصف نيرمين ما حصل، مضيفة: "كان يصرخ بأنه قريبها الوحيد في هذا العالم بعد أن ماتت كل عائلتها، فيما كانت زوجته تبكي وتقبّل أيدي الجنود، لكنهم استمروا في ضربه واقتياده خارجاً".
الإجابة الوحيدة الوحيد لتساؤلاتنا في كل مرة بأنها إجراءات أمنية للتأكد أن لا علاقة تربطه "بالعصابات الإرهابية المسلحة"، حسب تعبيرهم.
اليوم الثاني.. شتائم وضرب!
"في يومنا الثاني، استيقظنا على صوت فتح الباب الكبير للمستودع" -تقول نيرمين- "كان باباً معدنياً يسير على سكة، دخل عدد كبير من الجنود المسلحين".
وقد أعادوا تفتيش الجميع بدقة واقتادوهم خارجاً إلى ساحة، جمعونا في دائرة وأمرونا بالجلوس، كان البرد شديداً والخوف أشد، "كل تفكيري كان منصبّاً على الأطفال"، تقول نيرمين.
وما إن عرف المحقق أن زوج نيرمين كان معتقلاً لدى النظام حتى انهال بالشتائم عليها وقام بضربها ثم أمر بحبسها مرة أخرى.
اليوم الثالث.. دقيقة واحدة لقضاء الحاجة
قام مقاتلو النظام بفصل المعتقلين إلى مجموعتين بحسب ما توضح نيرمين، وكل مجموعة تضم قرابة 40 امرأة.
مجموعة نيرمين كان نصيبها غرفة بجدران عالية دون شبابيك أو فتحات تهوية تدخل البرد علينا، لكنها كانت من دون دورة مياه.
كان يتم تجميعهم كل ساعتين للذهاب إلى الحمام، ولا يُمنح للواحدة منهن إلا دقيقة واحدة لقضاء حاجتها وحاجة أطفالها، وبسبب عدد الأطفال الكبير وعدم قدرتهم على تنظيم أوقات حاجتهم لدخول الحمام قاموا بتحويل إحدى زوايا الغرفة المزودة بـ"بلاعة" صرف صحي إلى دورة مياه للأطفال.
تقول نيرمين: "بدأ الجوع والتعب بالسيطرة علينا، حتى الأطفال باتوا قليلي الحركة يتنقلون بعيونهم الخائفة بين زوايا الغرفة، ولم أكن أمتلك في وقتها إلا تذكيرهم بأننا سنعود إلى بيتنا، إلى أصدقائهم ولعبهم، وأن أباهم سيكون بانتظارنا هناك، لقد كذبت، لكني كنت لا أملك إلا الكذب".
اليوم الرابع.. ما مصير الفتيات؟!
يومنا الرابع كان صعباً، دخل الجنود صباحاً واقتادوا 3 فتيات في سن المراهقة خارجاً، كانوا يعيشون بحي الشعار في حلب بحسب حديثي السابق معهن، وكانت قد احتجزتهن القوات المهاجمة عندما حاولوا الفرار باتجاه حلب الغربية.
لم تجد توسلاتهن أو مقاومتهن نفعاً مع الجنود الذين سحبوهن من أرجلهن حتى باب الغرفة وسط بكاء وصراخ كل الموجودات، في المساء عاد الجنود حاملين طعامنا، وعندما سألتهم إحدى العجائز عن مصير الفتيات أخبرونا بأنهن عدْنَ إلى منازلهن بعد ثبوت البراءة، "لكن أحداً منا لم يصدق"، تقول نيرمين.
وتضيف: "في تلك الليلة، لم أتمكن من النوم، كان التفكير في مصير الفتيات يسيطر عليَّ، أين ذهبوا؟! ماذا واجهوا؟ وهل أُفرج عنهن حقاً؟ هل تعرضنَ للاغتصاب أم قتلنَ؟، ما السبب الذي دفع بالجنود لاقتيادهن هكذا؟ هل هي معلومات حصلوا عليها عن نشاط الفتيات سابقاً أم أن جمالهنّ وصغر سنِّهن أغرى الجنود؟!".
الأيام الأخيرة
الأيام الثلاثة التالية لم تكن مختلفة كثيراً، البرد والجوع والذل كانت العناوين العريضة لها.
تحول الموجودون إلى "جثث متحركة لا روح فيها"، بحسب وصف نيرمين، "وكان اليأس وتخيل النهايات المأساوية هما المسيطران على همساتنا التي كانت ما تلبث أن تُقمع عندما يسمعها السجانون، كنت أحاول إخفاء بكائي قدر المستطاع، وخاصة بعد سؤال الأطفال: ماما ليش عم تبكي، مو قلتيلنا بكرا طالعين من هون!".
خرجت نيرمين بصحبة أطفالها في صباح اليوم الثامن مجرَّدة من كل شيء عدا أوراقها الثبوتية ودون أن تملك مكاناً تلجأ إليه، وكانت الكلمات الأخيرة التي سمعتها من الجنود: "كان لازم تموتوا كلكون، بس حمدوا الله أنو هالمرّة في أوامر منعتنا".