كثيراً ما يثار الجدل في مسألة الاحتفال بذكرى مولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هذا الجدل الذي تجاوز الجانب الفقهي؛ ليصبح مسألة جدل مجتمعي، وهذا أمر نراه بديهياً بالنظر إلى الترابط الوثيق بين الاثنين.
لكن مَن يفهم عالم اليوم ومن يعي جيداً كيف يسير والمنطق الذي يحكمه، فمن المؤكد أنه سيحسم من الوهلة الأولى بعقم هذا الجدل من أصله، وسيخرج بفكرة ورأي واحد أوحد هو أن الاحتفال بذكرى مولد النبي حتى لو لم يكن موجوداً فيجب أن نوجده.
منطق عالم اليوم أننا نعيش حرب حضارات وصراع قيم، حرباً يكون البقاء فيها للحضارة الأجدر والأقوى، وعندما نقول الحضارة والقيم فإننا نعني بذلك كل تلك الأشياء من الإنتاجات والتعابير المرتبطة بجماعات إنسانية محددة ممن تجمعها روابط وخصائص ثقافية وفكرية وأنثوربولوجية مشتركة، ويجمعها بالتالي مصير موحد.
فوحدة المصير هذه تتطلب البحث الحثيث عن سبل البقاء، هذه السبل لم تعد مرتبطة بالضرورة بالمحددات الكلاسيكية لأي صراع -أي القوة والسلاح- بل إننا أصبحنا أمام صراع ناعم في شكله العام، لكن بشراسة أكبر بكثير من الصراعات التقليدية.
هذا الصراع تكون فيه الكلمة الأبرز للثقافة الأكثر جذباً وإغراء للآخر من الثقافة الأخرى، بمعنى كيف أستطيع إخضاع ذلك "العدو الآخر" دون قتال وبمحض إرادته؟
لذلك فالمولد النبوي هو جزء من صراعنا مع الآخر، وجزء من تعبيرنا عن تشبثنا بالمقاومة على الأقل بدل الاستسلام الكلي، إنه بشكل أو بآخر أحد أسلحتنا في حرب اختارتنا ولم نكن نحن من اختارها ولا حتى من يحدد قواعدها.
الاحتفال بذكرى المولد النبوي هي مسألة تجاوزت فكرة الحلال والحرام في الأصل؛ لأنها لم تعد تعبر بالضرورة عن موقف ديني أو رأي فقهي، إنها ببساطة تعبير عن انحياز لحضارتنا وقيمنا التي لا تقتصر على الإسلام فقط، إنها تشمل كل الديانات والمذاهب والتيارات والإثنيات التي ترتبط معه وعلى علاقة به.
فكوننا في واقع عالم اليوم أننا نشكل الحلقة الأضعف فذلك يحتم علينا إذاً أن نبحث ونسعى وراء أكبر عدد ممكن من فرص النجاة والبقاء على قيد الحياة، وهذا لن يتأتى إلا بالتعبير عن هويتنا وفرض أسلوبنا ونمط حياتنا وثقافتنا بالشكل الذي يقوم الآخر بذلك.
ببساطة إننا مجبرون على اللعب وفق أسلوب الآخر، ومجبرون على محاربته بنفس السلاح الذي يحاربنا به، ومكرهون على النزول إلى المعترك الذي يريد هو أن ينازلنا فيه؛ إذ ما دُمنا نحن الجزء الأضعف كما ذكرنا سالفاً، فمجبرون إذاً على تقديم تنازلات مؤلمة إذا ما أردنا البقاء في المنافسة.
إن الأمر في غايته هو سعي لتسويق نموذجنا، أو بشكل أدق هو ترويج وتسويق لمنتجنا القيمي والحضاري حسب منطق عالم اليوم، فكما نجد الغربي يحتفل بالأعياد المسيحية (دون أن يكون بالضرورة متديناً)، بالطريقة التي تجعل دونهم يقومون بذلك، وبالتالي ينغمسون بشكل تلقائي بنموذجهم القيمي، وبالتالي بما يمنحهم سلطة تفرد وتسيد العالم، فإن الأمر كذلك يجب أن يكون مع مناسباتنا وأعيادنا، وهو أن نقوم بعملية تسويق على أحسن وجه إذا ما أردنا إيجاد موطئ قدم بين الحضارات الكبرى في العالم.
المسألة لم تعد قضية فئة دينية، ولم تعد شأن مذهب أو تيار أو حركة، إنها قضية ومصير حضارة ملزمة بالبحث عن أسس وركائز للبقاء في عالم صراع القيم والحضارات، التي تشكل هذه الذكرى إحدى الوسائل الضرورية لذلك.
مسألة الاحتفاء والاحتفال بالمناسبة ليست من باب البهرجة والتباهي والاستعراض فقط، إنها مسألة مرتبطة بالوجود وإبراز الذات والحضور كشخصية حضارية لا تقل شأناً عن باقي الحضارات التي تؤثث عالمنا اليوم، هذه الحضارات هي التي في نفس الوقت نعيش معها صراع وجود يكون البقاء فيها للأقوى والأجدر.
فمولد النبي يجب ألا نبقيه مسألة أو حدثاً خاصاً بالمسلمين أو حتى بجزء وتيار منهم (ما دام جزء منهم يرفض الفكرة أصلاً)؛ بل يجب أن يكون احتفالاً برمز من رموز الإنسانية واحتفاء بأحد عظماء البشرية، احتفالاً بشخصية فذة ومتفردة لم ولا ولن يوجد لها مثيل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.