على سبيلِ الحمدِ والمعافاة أقول إنّني على مدار 23 سنة هضمت الأيام دون أن أرتشف فنجان قهوةٍ واحداً، وكسبتُ كل رهان يختصرُ السّهر بفنجان قهوة، رغم أنّي خسرتُ أن أقنِع النّاس بأن القهوة ليست قرينة تحيّة السّلام، أو مظنتهم بأنها افتتاحيّة كرم المُضيّف أو خاتمته.
تلك العَداوة الظاهرة حوّلت ساحة الحرب نحوي لأستفيقَ على خيانَةِ رئةٍ تعشق ريح القهوة مُخالفة عادات الجسد وتقاليد قلبه، فأغرقتني القهوة في بحرها، وسحبتني إلى أحد أوكارِها، لأعلِن دونَ خجلٍ أنّي مِمّن يشربون القهوة ويُدمنون على استنشاق ريحها.
القَهوّة في اللغة: "اسمٌ مِن أسماء الخَمر"، وسُميّت كَذلك لأنها تُقهي الإنسان، أي تُشبِعُه، وقيلَ قَهوَة: لأنّ شارِبها يُقهي عن الطعام أي يَكرهه ويأجَمُه؛ لذا ومنذُ مَطلع القرن العاشر الهجريّ غدت القهوة مَسألة خلافٍ بين الفُقهاء بينَ مُحِلٍ ومُحرّم، حتّى ذكَر ابن حجر في الفتح أن أول مَن شربها وأمر أصحابه بشربها ليستعينوا بها على السّهر في العبادة هوَ الإمام أبو الحسن الشاذلي، واليومَ لا خلافَ في حِلّها حتى صارَ الصباح الذي لا يبدأ برشفة قهوة يعتريه النقص، ترى جلياً فيه تثاؤب الشمس، بعدَ أن خفَتَ ضوء النهار إلى السواد، واندثرت من سمائه غيوم الغيث، تُبصره يتطاير غاضباً كما لو أنّه ماء يغلي لا يُشبع جوعَه إلا القليل من القهوة ليرقد كطفل أليف.
هكذا يراه البعض رغم أنّ عِلية الشعب يسعونَ لأرزاقهم قبيل الشمس يسبقونَ طفل الضوء الأول، فيهبون للصباح لونه، ويزيدون يومهم ألقاً ببعض القهوة.
إنّ السر الكامن في انتمائنا اللامتناهي للقهوة، والسعادة المرافقة لحالات الإدمان المنتشرة، والعدوى التي لا نرجو منها الشفاء مع حبيبات القهوة تتعدى الطعم والمذاق، حين أصبحت القهوة رفيقَةً لا مُستهلكاً، لا يحصرها فنجانها الدائريّ وإن تَشكّلت فيه، إنّما تَتغلغَل نحو الأعماق، فصارَت ريشَة الفنان، وبيت الشاعِر، وترنيمَة المُغنّي وتجاوزت كُل ذلك لتصير مِرآةً تعكس وجه الحبيب؛ لتجعل من صاحبها كَحامِل المِسك إمّا أن يُحذيكَ أو أن تجِد منه ريحَ الشّوق والذكرى.
القهوة بشريّة الطبع، كَأنّها تُراب خُلِق مِن ماءٍ فتشكّل، يَدُ الصانِع روحُه التي ألقاها بعدَ غليِ الماء فيها، وردَة ترى في قطفِها مُتعَة، ولئِن قدمتها لنفسِك على شكل هديّةٍ سيفوح منكَ العِطر، وإذ يقدمها الحبيبُ تَزدادُ ألقاً، وإن شاركَك فيها ازدادَت بَركَة. سُكّرها كلؤلؤٍ في جيدِ حَسناء، وإن فَضّل الكَثيرُ أن تَبقى أقرب للواقِع المُرّ فلا يبرحَ مكانه نحو عالم المَلكوت، فَيرى في تصبّرها حرارَة الماءِ أجراً فتُعينُه على أوجاعِ الدُنيا، ويتَمَعّن في تكاتُف حبيبات البُنّ فيؤمِن أن في الاتحادِ قوّة، يخونُه كثرَة التَحديقِ فتنسَكِب دُفعَةً واحِدَة، يرد بابتِسامَةٍ يستنطِقُ فيها القهوَةَ أن ثَورةَ الشعب ستنتَصِرَ ولو بعدَ حين!
القهوة عالَم مُنفَردُ الجمال، يَكسِرُ كُل قواعِد الحياة، مُتخَم بالمُتناقضات، تأنّثت كسَمراء تَسحَرُ كُل ناظِرٍ يتذوّق بقلبِه، وتتذكّر حيناً كسَفر مُتوحّد عُنوانُه اشتَمّ العِطر برئتيك، وتحدّثنا من دونِ كلام، فإنّ الكلام في حضرتها يُفسِد الذوق ويُبعثرُ الروح، وعلى النقيض تماماً هُناك من يرى أن القَهوة كالأمّ تُجمّع أطرافَ العائِلَة، فهيَ نَغَمُ الحديث، وسِرّ الضَحكات.
يَشربها العاشِقُ كي يُحيي الذكرى، وعلى زاوية المقهى يشربها الآخَر كي ينسى، فهي مُنوّم فعالٌ لكلِ مُتيقّظ، ومُنبّه جيّد لكل نَعِس، فالقهوة صديق وفيّ يَنظُر إلى حاجتكَ فيهبُك إيّاها بصدق، فالقهوة التي تُقدّم في الأتراح نَفسها التي يشربها الفَرحون إلا أنّها تَستبدِل دمعها فرحاً.
أكتُبُ كُل هذا الكلام في رسالَةٍ لحبيبٍ أدمنَ من القهوة طعمها لا مَعناها، ونسيَ أن القهوة تُعرَفُ بالوقت، فهي ساعَةُ الذكرى التي لا تُنسى؛ لذلك تُشرَب عَلى مَهلٍ كي يتعمّق المعنى، ويَتعَتّق الطعمُ حَد الانتِشاء، أي يا حبيب، القهوةُ جُملَةٌ واحِدة تبدأ بالصِدقِ وتنتَهي بالجمال، إما أن تأخذها فتتشَكّل كحبات بُنّها أو فَدَع!