ونحن صغار، ربما كانت أكثر مهنة كنا نتمنى أن نمارسها عند الكبر "طبيب"، ونحن نرص الدُّمى لنقوم بمعالجتها، ثم نخطط على أوراق حروف أقرب إلى لغة الفراعنة، فنلجأ لصيدلية البيت، نعبث بالأدوية هناك، نكتب "قبل الأكل" على إحدى العلب و"بعده" على أخرى.
ربما كانت أكثر اللحظات فرحاً بالنسبة لنا هي عندما تُجلَب لنا "مجموعة أدوات الطبيب" البلاستيكية كهدية في مناسبة، نستغني حينها عن الدمى، ونقوم بحملة طبية على أفراد عائلتنا، نقيس ضغطهم وحرارتهم، نعطيهم إبراً مهدئة، نحكي طويلاً عن مرض وهمي كل ما نعرف عنه ما سمعناه أثناء حديث "الكبار" وما شاهدناه في حلقة من حلقات الرسوم المتحركة.
ثم ونحن نكبر، وعند مواجهة سنوات الدراسة لولوج كلية الطب، نكتشف أنه ولتصبح طبيباً ستتجاوز عدة مراحل كانت أكبر من أن يستوعبها عقل فتيّ.
وبعد أن أصبحتُ طالبة في "كلية الطب"، انكسر الحلم مباشرة بعد أن التقيت بمن هم أكبر مني في نفس الكلية وحادثتهم، أو بعد ذلك بأيام، وجدت أن الواقع بعيد كل البعد عن الأحلام واللعب… كومة دروس يجب عليك ابتلاعها ليس لشيء إنما فقط لتعيد وضعها في ورقة الامتحان، فمنها دروس وجدت أنها قد لا تنفعني في شيء، فمثلاً لن أشرح لشيخ جاء لأعاينه من أعمق نقطة في جبال الأطلس عن "الكليكوز ومراحل تفككه"، ولن أخبر امرأة على وشك الولادة وبعد أن أسكتت زوجها قسراً، فهو لا يريد لطبيب "رجل" أن يلمس زوجته أو يراها، عن "système d'exploitation " أو غيرها من تقنيات الإعلاميات.
ثم بعد سنة لي في الكلية، تَقرر تنظيم مقاطعة شاملة للدراسة والتدريبات الاستشفائية في مطلع الدخول الجامعي، وقتها أدركت أن شكاوى الأطباء الخارجيين، والداخليين، والمتخصصين والطلبة أيضاً كانت عبارة عن شرارة قنبلة موقوتة.. وها قد انفجرت.
ثم انطلقت المقاطعة الوطنية، التي شاركت فيها سبع كليات، بين ترقب وتخوف، هي أربعة وستون يوماً سُمعَت فيها الشعارات، وكُتِب خلالها اسم الأطباء في عناوين الصحف لمرات كثيرة؛ لتَظهر فئتان من المواطنين: الذين عارضوا مقاطعة الأطباء واعتبروها عدم رغبة في خدمة المناطق النائية والابتعاد عن أجواء المدن، ومن اعتبر أن المقاطعة كانت الحل الوحيد والأنسب لحفظ ما تبقى من كرامة الأطباء في بلادي.
وحدهم الأطباء كانوا يعلمون تبعيات قرار أخرجهم للمقاطعة وهو "الخدمة الإجبارية"، حين رفضوا مسايرة الوزارة في قرار يحل مشكلة تخصص الأطباء بأقل التكاليف، الأطباء ضربوا رفضهم في وجه الوزارة وضحوا بشهرين من الدراسة، وهددوا بسنة بيضاء؛ لأنه ببساطة لا يمكن إرسال طبيب لقمم الجبال مع عقد لسنتين مع مذكرة وقلم، كل ما سيكون عليه فعله هو إرسال المرضى إلى العاصمة، أو إحدى المدن الكبيرة التي قد تتوافر على المعدات واللوازم الطبية.
ثم قررت الوزارة الاستجابة لمطالب الطلبة وتوقيع محضر اتفاق في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ألغي فيه مرسوم "الخدمة الإجبارية"، وتحددت مجموعة من المطالب التي وعدت الوزارة بتحقيقها التي تخص الرفع من مِنَح التدريبات، عدد المناصب المفتوحة في مباريات الإقامة والتخصص، وظروف التكوين في المستشفيات من تجهيزات ولوازم طبية، لكن ومع مرور سنة لم يتحقق سوى جزء من مطلب واحد، مما أشعل لهيب سخط الطلبة على وضعهم، الذي كان قد أخمده محضر الاتفاق، بدأت موجة من النشاطات النضالية، من اضطرابات، ووقفات احتجاجية ونزول للشارع لتقريب المواطنين من واقع الصحة، وليعلموا أن الطبيب الذي واجبه علاجهم، لم تغادره عِلَّتُه منذ أكثر من سنة.
وهي الآن كليتي "كلية مراكش" أو" قلعة النضال"، كما يحب البعض أن يسميها، ستخوض إضراباً مفتوحاً ابتداء من 28 نوفمبر/تشرين الثاني في انتظار استجابة من أحد المسؤولين الذين أغلقوا آذانهم في وجه النضالات خلال سنة!
وبذلك تأكدتُ أنه لتصبح طبيباً في بلدي يجب أن تتحول وردية الحلم إلى سواد قاتم!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.