مَن نحن غير أشخاص وجدوا أنهم يمضون أوتار حياتهم على إيقاع السيمفونية السادسة عشرة لبيتهوفن حيث اللهفة، والسيمفونية التاسعة لماهلر حيث الحزن، من نحن من دون أصدقاء؟ من نحن دون أنصافنا الأخرى في مكان ما، دون قلوبنا التي نسمع نبضها في أجساد أخرى؟
من نحن دون تلك الاتصالات الطويلة المليئة بشهقات البكاء ومن الفرح والحب، تلك اللقاءات التي نقضيها أحياناً وقوفاً دون أن نتعب، أو جلوساً تحت إحدى الأشجار، تلك الأيدي التي تتشابك في أوقات الضعف وتعد بعضها البعض ألف وعد، تلك المحادثات والحكايات والأحلام.
نحن مَن ظلت لهم اليوم ذكريات قاسية، بقينا نقف بسذاجة تحت تلك الشجرة، ونتصل فلا نحظى بأي مجيب، والفراغات بين أصابعنا باتت وحيدة، نحن مَن جمعتنا بهم الصدفة وفرقتنا أيضاً، التقينا غرباء وافترقنا غرباء.
يقول واسيني الأعرج: "أصعب الأشياء في الحياة هي البدايات، فعليها تترتب كل الحماقات اللاحقة"، وإنني لأصدقه في هذا، فبدايات كل العلاقات بكثرة ما هي جميلة هي صعبة ومتعبة، تتعبنا لأننا نتجهز لها طويلاً، نختار كلماتنا كما نختار ملابسنا، نحسب خطواتنا وتصرفاتنا يستغرق ذلك وقتاً، أن نعتاد على بعض، ونحب بعضاً، ونحزن لحزن بعض، ونفرح لفرح بعض، ونتخاصم مع بعض، ونتصالح مع بعض، ونحلم ونخطط ونبني مع بعض، وفي الأخير نفترق.
أظن أننا وُجدنا في هذه الحياة لنلتقي ولنفترق!
هل تتذكر أول صديق لك؟ ذلك الذي شاركك المعقد الدراسي في سنواتك الابتدائية الأولى، الذي تقاسمت معه أول رسمة وأول فرشاة للصباغة وأول قطعة شيكولاتة أهدتك إياها المعلمة بعد حصولك على أول نقطة في الإسلاميات، ذلك الذي تقاسمت معه خوفك ورهبتك الأولى من استظهار المحفوظات.. أين هو الآن؟
هل تتذكر أول صديق افتراضي تعرفت عليه من ذلك الرواق الأزرق؟ جمعتكما شاشة وأزرار بغيابهما تغيب علاقتكما، ومع ذلك تشاركتما الأسرار والهموم والنصائح، سهرتما الليالي وأنستما ببعض.
هل تتذكرين أول صديقة شاركت وإياها لحظات مراهقتك الطائشة؟ حكيت لها عن أول حب ورهبة أول لقاء وانهرت أمامها بعد أول فراق.
الكثير والكثير من الأصدقاء الذين بصموا فترات حياتنا، تعلقنا بهم بصدق ولعلك تتذكرهم جميعاً الآن واليوم منهم من سافر دون أن يودعك، ومنهم من تزوج وأنجب طفلاً ولم يقم بدعوتك حتى لزفافه، منهم من تراه كل يوم ولا يلقي عليك التحية، يمر من جانبك كنسمة هواء، وقد يصافحك ببرود وابتسامة صفراء.
قالوا لي ستكبرين وتنسين كل صديقة مرت في حياتك ولم تستمر علاقتكما، لكنني لم أنسَ، وقالوا لي الحياة تفرقنا مع أشخاص لتجمعنا بآخرين، هؤلاء الأصدقاء الذين عرفناهم ليسوا سيئين، بل نحن من فتحنا لهم المجال؛ ليخرجوا ويدخلوا لحياتنا كما شاءوا، كأنها حديقة أو مقهى.
يرحلون وقد يعدون ليجدوا أن مشاعرنا نحوهم لا تتغير، نستقبلهم بحفاوة، وعند أي فرصة جديدة للغياب يغيبون.
إن المؤلم ليس غيابهم ولا حتى احتياجنا لهم دون أن نجدهم، بل محاولاتنا المستمرة في إيعاد المياه لمجاريها ومحاولاتنا التي تبوء بالفشل ويغلق الباب في وجهها، المبادرات التي نقوم بها تجاههم بسيطة، لكنها عميقة، مجرد تعليق على إحدى صورهم، رسالة للاطمئنان نرسلها في منتصف الليل، بينما لا يحركنا ساكن تجاهنا.
شكراً لأننا بفضلكم صرنا أقوى، لم تعد تكسرنا خيبتنا تجاه أي شخص عرفناه بعدكم، لم نعد نكترث لغياب أحد، ولا ننتظر دعماً وحباً من أحد. لم نمُت قهراً بعد رحيلكم، ولن نموت فرحاً لمجيئكم.. سلام عليكم وعلى صداقتكم المزيفة.
إلى صديق ما سيقرأ هذه الكلمات حتماً.. شكراً لأنك رأيت جدار روحنا ينقض ولم تقوّمه، بينما بنينا جدارك مرات ومرات كلما هدمته رياح الأيام المستبدة، شكراً لأنك غدار كتشرين لا يمكن الوثوق بمطره ولا بشمسه، شكراً لأنك كنت قريباً بعيداً بين الجنة والنار في البرزخ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.