في أوروبا قِدرٌ يغلي ويفور على مِرجل: إنها ثورة جديدة مكانها ليس إلا صناديق الاقتراع التي تغلي بأصوات ناخبيها مهددة مستقبل اتحاد هذه القارة، حسب تقرير لصحيفة واشنطن بوست الأميركية، الثلاثاء 6 ديسمبر/كانون الأول 2016.
هذا العام، قال الناخبون كلمتهم في بعض البلدان، فأطاحوا بأعلام السياسة هناك وأزاحوهم من على الساحة لتخطو بلادهم خطوة نحو مستقبل مجهول غير محدد الوجهة بعد.
آخر الأسماء اللامعة التي أقصتها صناديق الانتخاب كان رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي، الذي رفض مواطنوه بأغلبية ساحقة الأسبوع الماضي حزمة الإصلاحات التي اقترحها وتبناها.
ماذا يخبئ العام المقبل في انتخابات كل من فرنسا وهولندا وألمانيا؟ سيكون تنافساً شديداً للبقاء، فيما مصير الاتحاد الأوروبي سيكون على المحك، حسب تقرير واشنطن بوست.
وفقا للتقرير فإن الاستياء سببه جزئياً كان بقايا آثار الأزمة الاقتصادية التي ضربت بلدان العالم عام 2008، التي ما زالت حتى الآن تخيم بظلالها الثقيلة على العديد من أسواق الوظائف في أوروبا.
بيد أن الأحزاب المناوئة لسلطة الحكومة تزدهر الآن وتنتعش حتى في البلدان المتقدمة ذات الاقتصاد الزاهر، التي لم ينلها قسط وافر من غصة الأزمة وألمها، بل يتزايد هناك الكره تجاه المهاجرين، ويتزايد الخوف من المستقبل، وثمة موجة معاكسة يعلو تيارها ضد العولمة التي غدت ظاهرة عالمية بحد ذاتها.
وحتى قبل الانتخاب صرنا نرى كبار السياسيين على الساحة يقدمون تنازلات لأحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار، في محاولة منهم لتخفيف وهج بريقهم الذي يجتذب الناخبين.
فالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي هبطت شعبيته بنسبة قياسية بلغت 4% أعلن الأسبوع الماضي لأول مرة أنه لن يترشح ثانية، كي يفسح المجال أمام مرشح اشتراكي آخر ليجرب حظه في خلافته.
حظر النقاب
المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل هي الأخرى رفعت صوتها يوم الثلاثاء، منادية بحظر "النقاب الكامل" الإسلامي في بلادها، وهو نداء مثير للجدل ليس لطبيعته فحسب، بل كذلك لكونه تنازلاً لقوى اليمين السياسي من بعد كل ما فعلته ميركل العام الماضي، حينما وضعت ألمانيا في طليعة الدول المرحبة باللاجئين، فالمستشارة تضع نصب عينيها العودة للترشح من جديد في انتخابات الخريف المقبل.
هولندا من جهتها ستنتخب قادتها السياسيين في مارس/آذار 2017، وتجد البلاد نفسها عالقة تحاول التوفيق بين المحافظة على علاقات طيبة مع أوكرانيا المتوترة وبين العمل بمقتضى استفتاء تهللت له أسارير أقصى اليمين، حكم بإلغاء موافقة هولندا على اتفاقية تجارية أوروبية مع تلك الدولة.
ولا تقف المشاكل هنا عند هذا الحد، فهناك المزيد عندما يحاول قادة أوروبا مناقشة بنود خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، وهو طلاق شائكٌ معقدٌ يمثل تحولاً تاريخياً في مجرى مجموعة بلدان اكتوت بنيران الحرب العالمية الثانية وتشكلت على جِمر سعيرها.
صدمة للاتحاد الأوروبي
يقول مارك لينارد رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي "لدى هذه الأحزاب شيء يولّد لهم النجاح إثر النجاح.
تصويت بريكسيت خلق إحساساً بإمكانية فوز ترامب، ثم أدى انتخابه للتقليل من فداحة احتمال فوز مارين لوبان في فرنسا، في إشارة منه إلى زعيمة أقصى اليمين الفرنسية، التي تريد تحجيم نفوذ الاتحاد الأوروبي وخفضه جذرياً.
ويتابع لينارد فيقول "فإن فازت مارين لو بين في فرنسا، عندها سيكون ذلك صدمة للنظام الأوروبي أكبر بعدة مرات من صدمة تصويت بريكسيت".
البريطانيون يفتقدونه
لكن العلامات والإشارات لا تحمل كلها نذير شؤم على قادة أوروبا، بل إن بعض ردود الأفعال تجاه بروكسل غدت أكثر إيجابية في معظم البلدان الكبرى منذ تصويت بريطانيا على مغادرة الاتحاد في يونيو/حزيران 2015، حتى في عقر دار بريطانيا نفسها، حسب دراسة استطلاعية نشرتها الشهر الماضي مؤسسة بيرتيلسمان Bertelsmann Foundation وضع فيها الباحثون نظرية لتفسير سر هذه القفزة الإيجابية، فقالوا إن هذا الارتداد الإيجابي نحو بروكسل سببه افتقاد البريطانيين لنعمة عضوية الاتحاد وتقديرهم لها من بعد ما ذاقوه من مر استفتاء بريكسيت الذي حل وباله على كل القارة.
رئيس الوزراء الإيطالي رينزي نفسه لعله قبِل الانتخاب رغم هزيمته المزرية، فهاهو الآن يوجه أنظاره نحو الانتخابات الجديدة، وينوي عقدها في موعد باكر في فبراير/شباط 2017 حسبما نقلته وسائل الإعلام الإيطالية يوم الثلاثاء، رغم أن مقترحات تغييراته الدستورية قوبلت بالرفض بنسبة 59% من المصوتين.
إن عقد انتخابات مبكرة هو مخاطرة كبيرة، لأن الأحزاب الشعبوية اليمينية واليسارية تتنامى شعبيتها في استطلاعات الآراء، كما أن حركة النجوم الخمس المناوئة للاتحاد الأوروبي لا تفصلها عن حزب رينزي الديمقراطي يساري الوسط إلا شعرة واحدة في ميادين استطلاعات الرأي. لكن في حسابات رينزي فإن عقد انتخابات مبكرة قد يعود عليه بالنفع لأنه قد ينجو شخصياً في حلبة السياسة، كما قد يفوّت على أحزاب المعارضة فرصة التكتل والتحالف حتى لو أفلح أحدها وأحرز المركز الأول.
قد يكون المزاج العام تجاه الاتحاد الأوروبي يتأرجح تأرجحاً طفيفاً نحو الإيجابية أكثر، لكن هذا الميل الطفيف ليس علاجاً لمخاوف محددة ومعينة تساور الناخبين تجاه قادتهم.
فرنسا هي المشكلة
ولعل الفوضى الكبرى والتحول الأكبر الذي سيعم أوروبا العام المقبل نابعة من فرنسا في شهر مايو/أيار، فالتوقعات تشير إلى أن لو بين زعيمة الجبهة الوطنية قد تصل إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، ولعلها تفعلها وتحرز نصراً مفاجئاً.
إن نجحت لو بين هذه المرأة الشقراء القوية، فسيشكل ذلك تحولاً تاريخياً لتلك الدولة التي أرست مع ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية قواعد وأسس ما بات يعرف بالاتحاد الأوروبي.
فقد كتبت لو بين على موقعها على الإنترنت يوم الإثنين "إن الـ"لا" التي قالتها إيطاليا بعد "لا" الاستفتاء اليوناني [ضد خطة الإنقاذ] وبعد استفتاء بريكسيت قد أدرجت انضمام شعب جديد إلى قائمة من يريدون إدارة ظهورهم للسياسات الأوروبية الخرقاء، التي أدخلت القارة في دوامة التعاسة"، حسب تعبيرها.
في حال انتخابها، تعهدت الفرنسية لو بين بعقد استفتاء حول عضوية فرنسا في الاتحاد الأوروبي، فإن انسحبت فرنسا عندئذ يرى الكثير من مناصري الاتحاد الأوروبي أن المشروع كله سيتهاوى أرضاً.
يقول سايمون تيلفورد نائب مدير مركز الإصلاح الأوروبي الذي مقره لندن "إن فازت مارين لو بين فسيشكل هذا صعقة وجودية للاتحاد الأوروبي وكيانه ولكل استقرار أوروبا".
ووسط تصاعد موجات الاستياء يحاول قادة كثيرون جاهدين لإيجاد أسباب مقنعة كي يتشبث المصوتون بالاتحاد الأوروبي، ويمنحوا الأحزاب الرئيسية فرصة أخرى للبقاء.
وأما كلمة الختام فكانت ليانيس إيمانويليديس، مدير الدراسات بمركز السياسة الأوروبية ببروكسل الذي قال "إن خلق رواية مضادة تضع في الحسبان المخاوف والشكوك العديدة التي تساور الناس مع تحويلها إلى رواية إيجابية لأمر في غاية الصعوبة".
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.