لم يعد الموت بالنسبة لهم هو الفجيعة الكبرى.. فقد بات خبز الصباح والمساء، أما الهمّ الحقيقي لأبناء حلب الشرقية في ظل تراجع المعارضة وحصار قوات النظام، فهو: أين ستدفن فقيدك إن كنت حريصاً على لا تراه طعاماً للقطط بجوار المصارف؟
فقد امتلأت مقبرة حلب القديمة عن آخرها منذ عام مضى، بينما امتلأت المقبرة الجديدة خلال الأسبوع الماضي، والآن تظل الجثث ملقاة في شوارع القطاع الشرقي لحلب؛ إذ دُفن بعضها في حدائق المنازل، والبعض الآخر تكتظ به المشارح.
المسؤولون الطبيون في المدينة السورية، التي لم تتوقف فيها المعارك على مدار السنوات الخمس الأخيرة، خصصوا مؤخراً قطعة أرض أخرى لدفن الموتى، إلا أنهم لم يتمكنوا من حفر القبور في ظل قصف القوات الحكومية معاقل المعارضة، بالإضافة إلى قصف المدنيين في أثناء فرارهم، مما أجبر الآلاف على التكدس في زوايا الأحياء الضيقة الفوضوية المدمرة، بحسب تقرير لصحيفة الإندبندنت البريطانية.
"ليس لدينا أماكن أخرى".. هكذا يلخص محمد أبو جعفر رئيس هيئة الطب الشرعي بالمدينة الوضع باقتضاب، فقد اكتظت المشرحة بالجثث، وأصبح فريق عمله عاجزاً عن تسلم أي جثامين أخرى.
ويقول أبو جعفر خلال مكالمة هاتفية مع مراسل "الإندبندنت": "حتى لو قررنا دفن هذه الجثث دفناً جماعياً، فنحن لا نملك آلات الحفر".
"المدينة المقبرة"
لم يعد من المتاح إكرام الموتى، وذلك بالتزامن مع انهيار مناطق تحصّن قوات المعارضة التي صمدت 4 سنوات.
ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، استمرت القوات الحكومية في قصف المنطقة على مدار الأسبوعين الماضيين، متسببةً في سقوط 310 قتلى في صفوف المدنيين، منهم 42 طفلاً، و220 من مقاتلي المعارضة، كما شنت القوات البرية الحكومية الأسبوع الماضي هجوماً على قطاع ميدان 17 ميل، وسيطرت على نصفه، وفي طريقها إلى النصف الآخر.
حاول ستيفن أوبراين، منسق الإغاثة والطوارئ بالأمم المتحدة، الوصول إلى شرق مدينة حلب التي يقطنها قرابة 275 ألف إنسان "قبل أن تصبح مقبرة كبيرة".
تُركت الجثث لتتحلل في الشوارع بالفعل ببعض المناطق، ولم تستطع سيارات الإسعاف والإغاثة الوصول لتلك الجثث بسبب استهدافها، أو بسبب نفاد الوقود منها، كما أصبحت القوات الحكومية قريبة جداً، وصار الاقتراب من الخطوط الأمامية للمواجهات خطيراً للغاية.
علم السكان المحليون في جنوب الحي، بالقرب من تقدم القوات الحكومية، أن هناك جثثاً ملقاة في المصارف عندما بدأت القطط في نهش الجثث.
يروي أبو جعفر وهو في غاية التأثر: "أُحضرت امرأة من الحي وسجلت في المشرحة، وما زلنا لا نعرف لمن تنتمي هذه الجثة!"، وأضاف: "أقسم بالله لقد بكيت وأنا الذي تعودت على تلك المشاهد المروعة!".
العيادات السرية في خطر
أوشكت اللوازم والمواد الغذائية على النفاد في ظل الحصار الشديد المفروض على شرق مدينة حلب منذ شهر يوليو/تموز، كما شنت القوات الحكومية غارات جوية على جميع المرافق الطبية السبعة في المنطقة، قبل الاجتياح البري مباشرةً، بما في ذلك خمسة مرافق مجهزة بوحدات الطوارئ وبوحدات العناية الفائقة، مع تقدم القوات الحكومية، صار المجمع الطبي، الذي يتكون من 4 مستشفيات، يبعد فقط بضع مئات من الأمتار عن تلك القوات.
أُخليت المستشفيات تماماً، وأقام الأطباء المنتشرون في جميع أرجاء المنطقة بعض المراكز الطبية الصغيرة تحت الأرض تجنباً للاكتشاف، إلا أنهم لا يستطيعون سوى تقديم بعض أبسط أساسيات الرعاية الطبية.
يقول زكريا أمينو نائب رئيس المجلس المحلي لشرق مدينة حلب، إن "كل جريح ما هو إلا شهيد محتمل".
وتضيف ممرضة ممن يعملن في العيادات الطبية تحت الأرض، أن "بعض الجرحى ماتوا بالفعل بسبب انتظار العناية الطبية، وبسبب نقص الدم؛ إذ إن بنك الدم الخاص بالمنطقة قد قُصف وأُغلق"، مردفة: "الأسوأ من ذلك، أن بعض المرضى لم ينجوا بعد إجراء عمليات جراحية لهم، بسبب البرد الشديد".
يقول أبو جعفر: "هناك مصابون في كل مكان، أخشى أن أخطو فوقهم عندما أسير".
وتعاني المراكز الطبية المؤقتة النقص الشديد في المواد والعاملين، بالإضافة إلى أنهم لا يعرفون أين سيدفنون الموتى.
ويشير أبو جعفر إلى أنهم يخشون من أن تتسبب الجثث المتكدسة في كشف أماكن العيادات السرية، وقال: "هناك العديد من الوشاة والمتعاونون مع النظام في كل مكان".
الفرار إلى الموت
عندما اجتاحت القوات الحكومية وحلفاؤها الجزء الشمالي من المنطقة، فر أكثر من 30 ألف شخص إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة والأكراد في المدينة، بينما فر آلاف آخرون إلى الأجزاء التي لا تزال قوات المعارضة في المناطق الجنوبية تسيطر عليها، والتي اندحرت وتعاني نقصاً شديداً في الموارد كافة.
لقي على الأقل 50 شخصاً حتفهم في أثناء محاولتهم الفرار من المناطق التي تقصفها قوات النظام، خلال الأيام القليلة الماضية، إلا أن محاولتهم انتهت بمواجهة ما كانوا يفرون منه. وتشير صور جثثهم الملقاة على الأرض وسط حقائبهم والأنقاض إلى الطبيعة القاسية للصراع الذي بلغ عامه السادس.
وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان الموجود في المملكة المتحدة، والذي يسجل الإصابات كافة، قُتل خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 20 ألف شخص من سكان محافظة حلب، أكثر من 80% منهم كانوا من المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة.
كانت المقبرة القديمة للمنطقة الشرقية قد امتلأت بالفعل قبل أن تسيطر قوات المعارضة على المنطقة عام 2012، إلا أنه استمر استخدامها في ظل المعارك العنيفة وقصف القوات الحكومية، بينما بحث المسؤولون عن قطعة أرض أخرى، وبالفعل وجدوا واحدة، إلا أنها قُصفت الصيف الماضي، في الوقت الذي امتلأت فيه مقبرتان صغيرتان.
مقبرة في بيتي
منذ أن اشتدت الحرب، لجأ سكان شرق مدينة حلب إلى الأماكن القريبة لدفن موتاهم.
يقول أمينو من المجلس المحلي للمدينة: "لقد دُفن الموتى في حدائق المنازل في وقت من الأوقات"، مضيفاً: "كلما سنحت الفرصة، يحمل الناس موتاهم إلى الطبابة أو الهيئة الصحية التي يديرها أبو جعفر المنوط بها استخراج شهادات الوفاة".
يكاد يكون توثيق حالات الوفاة مستحيلاً عندما تكون التركيبة السكانية في تغير مستمر، فهناك 20 جثة محفوظة في المشرحة لم يتم التعرف عليها منذ يوم السبت الماضي 3 ديسمبر/كانون الأول 2016 بعد قصف الفارين في أثناء تقدم القوات البرية الحكومية، بالإضافة إلى 70 جثة أخرى لم يُتعرف عليها أيضاً تسببت فيها الضربات الجوية التي سبقت الاجتياح البري.
ونشر أبو جعفر صورة لفتاة تبلغ من العمر 5 أشهر، وُجدت تحت الأنقاض في أحد الأماكن منذ يومين، ويُرجح أن والديها قد ماتا، بينما فقدت الفتاة الصغيرة إحدى ساقيها، وهي الآن تحت رعاية الممرضات في إحدى العيادات تحت الأرض.
يقول أبو جعفر: "الكثير من سيارات الإسعاف قد دُمرت وصارت خارج الخدمة، بينما يقوم الناس بدور المنقذين".
يُعتقد أن كل هذه الجثث لمدنيين؛ لأن المقاتلين يدفنون موتاهم بشكل مستقل.
"لا يوجد أي احترام للموتى، وربما يكون وضع الناجين في أنحاء حلب المدمرة أسوأ"، يستطرد أبو جعفر.
أحد المنشقين عن النظام والذي التحق بالمعارضة يتوافق مع حديث أبي جعفر بقوله إنه "خائف من سيطرة قوات النظام على مدينة حلب كاملة"، ويضيف: "أفضل أن ينهار منزلي فوق رأسي وأموت على أن أسلم نفسي للنظام!".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة independent البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.