هكذا علَّمني أبي

أنا من رجل صبر على صراخي في كل ليلة أراد أن ينام وأنا ما أزال طفلة.. من رجل سمع أول كلمة أنطق بها -لقد كانت "بابا".. من رجل أنقذني من ظلمة عينيَّ.. من رجل علِم أخطائي ولم ينهرني.. كانت قصة يسردها علينا بلا مناسبة كفيلة بأن تصلح من قلبي ما دمّره العالم الخارجي.. كان حكيماً وما زال.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/04 الساعة 06:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/04 الساعة 06:15 بتوقيت غرينتش

إني أسمع خطواته، القلب ينبض فرحاً.. يا إلهي، لقد حان دوري! أغمض عينيَّ بسرعة كأني نائمة حقاً، ليأتيني على مهل فيبسط راحة يده على جبيني ولسانه يردد ما تيسر من القرآن ويرحل بهدوء، ليتركني تائهة في ذاك السلام الداخلي الذي أهداني إياه قبل نومتي.. لقد كنت كثيراً ما أوهمه بأني نائمة لأتحسس يده الكبيرة على رأسي الصغير، وهو يمررها على خصائل شعري بكل لطف وعطف، إنها حيلتي في أن أسلب منه حنانه المخبَّأ بين كلماته القاسية عليَّ بين فينة شغب وأخرى.. ربما كنت متمردة – مراهقة حقاً!

يداه الخشنتان تلك كانتا قوتي، كنت أسابق إخوتي الصغار لأكون أول من يرسم على يده قُبلة.. هي قُبلة غير عادية؛ لأن نيتي لم تكن لكسب رضاه فقط؛ بل كان كل فضولي أن أطمئن عليه، أن أضمن سلامة يديه في ذاك اليوم، فكثيراً ما كنت أسمع أن آلة تقطيع الخشب كانت تجرّ أيادي العاملين عليها في لحظة من لحظات سهوهم. لقد كان يحارب وأنا كنت أنتظره على أحرَّ من الجمر أن يعود من حربه سالماً بلا جرح أو خدش. لكن، الحرب لا تتركك سالماً، سواء انتصرت أم انهزمت، مخلفاتها أعظم من نتائجها!

هو من علّمني أن أحيا لقضية، أن أترك بصمة.. أعلمتِ الآن من أين أنا؟!
أنا من رجل صبر على صراخي في كل ليلة أراد أن ينام وأنا ما أزال طفلة.. من رجل سمع أول كلمة أنطق بها -لقد كانت "بابا".. من رجل أنقذني من ظلمة عينيَّ.. من رجل علِم أخطائي ولم ينهرني.. كانت قصة يسردها علينا بلا مناسبة كفيلة بأن تصلح من قلبي ما دمّره العالم الخارجي.. كان حكيماً وما زال.

أرأيتِ حجم البساطة التي تربيت فيها؟!

ثم لا تستغربي إن لم تجدي بحوزتي أحلام المشاهير، وأماني الأغنياء؛ فقد علّمني أبي أننا لله وكل ما نملك له، وأنا لا أريد أن أملك شيئاً سوى قلب كقلب أبي!

فأنا أرجوكِ، لا تقنعيني برجل طويل القامة، وسيم المنظر، صاحب مال كثير؛ أنا لم أشكُ إليك يوماً ما تشكوه الفتيات في عمري.. ثم لا تجعلي من حالتي طبقاً دسماً تأكلين منه أنت وصويحباتك كلما أتيحت الفرصة وتذكرتِني.. ويا لحسنات ذكراي!

يا صديقتي، أنا لا أتحمّل رؤيتكِ تستمرين في التنازل عن أسمى حقوقك للحفاظ على هناء أسرتك.. أنا لا يمكنني التخيل حتى، أنك ترضين الذل لنفسك تحت أوامر زوجك الغبي.. أنا لم أستوعب حينها أنك تعيشين مع شخص يشكّ فيك طوال خروجك من البيت، هل هذا ما تريدينه لي؟!

أنا آسفة إذاً.. لا أريد رجلاً؛ بل أريد قلباً. لست عاطفية الآن أكثر من واقعية، ستفهمين قصدي حينما تجدين نفسك بعد أربعين عاماً جالسة على عتبة الدهر تتنهدين السنين التي لم تتذوقي فيها طعم السكن والالتئام.

لقد رمقت بين عينيك شيئاً من الحسرة وأنت تجيبين عن سؤالي العابر عن مدى صداقتك بأبيك بعد قرانك، لقد تنهدت طويلاً وقلت لي: لقد كان أول صديق لي لكنه لم يعد كذلك، فقد ملأ مكانه شخص آخر.

لا بأس أن يملأه شخص آخر؛ فتلك سنّة الله فينا، لكن كل البأس في تنهيدتك المطولة تلك. أكثر ما حزّ في نفسي ساعتها أنكِ كنت تحاولين مقارنة أبيك بزوجك على حساب عدد الهدايا التي يرسلها لك، وبالمبلغ المهم الذي يصرفه على طلباتك، وكيف يمدك بما تشتهين في رمشة عين، عكس أبيك الذي لم يصل لذاك المستوى من العطاء المادي اتجاهك من قبل.

فلنكن صرحاء: لماذا تحاولين إقناعي بأن الحياة لا تعيد نفسها عبر الأجيال؟! هل للحكمة زمن إذاً، أم أن دوافعك الشخصية البريئة أرغمتك على تصديق الكذبة السخيفة التي أوهموك بها مذ أول طرقة رجل الدنانير على بابك؟.. حتماً قالوا لك إنها طَرقة حظ!

أنا آسفة إذاً.. كل حظي أن تفتخر ابنتي بأبيها، كما أفتخر بأبي الآن.
سلام

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد