لا يقتصر أثر الأحداث السياسية الساخنة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط على القتل والدمار فحسب، بل يؤثر بشكلٍ كبير على مستقبل الشباب الذين نجوا من الموت.
فبسبب الأحداث السياسية، اضطر مئات الشباب لترك أوطانهم ليذهبوا إلى طريقٍ مجهول، أحدهم كان الشاب العشريني السوري محمد زمزم، الذي يكافح – فقط – من أجل إكمال دراسته الجامعية وتحصيله العلمي، رغم أنه اختير سابقاً من بين مئات الطلاب لينضم للمركز الوطني للمتميزين لموهبته وذكائه الكبيرين.
محمد سبق أن أقام في مخيم للاجئين السوريين في تركيا، ولحبه العلم أخذ يُدرس الأطفال هناك لعدة أشهر، ثم بدأ يتعلم اللغة التركية، ويدرس لاختبار القبول الجامعي، رغم أنه لم يملك المال لشراء الكتب حتى، لكن حبه للهندسة الميكانيكية الالكترونية (mechatronics) كان دافعاً قوياً لتخطي كل الصعاب.
حارب الوضع المادي بالعمل، حيث كان يُدرس لزملائه المواد الجامعية الصعبة في فصلٍ متواضع بناه بنفسه، ولم يثنه ذلك عن الحصول على المركز الأول في الجامعة عدة سنوات، كما واجه الشتات الذي فرَّقه لـ 3 سنوات عن فتاة أحبها ليجمعهما بيتٌ واحدٌ في نهاية المطاف، يدرسان فيه معاً مجالات علمية معقدة، لكن لا شيء يصعب على أصحاب الموهبة والطموح قط.
الانضمام إلى مركز المتميزين
بدأت قصة زمزم منذ انضمامه للمركز الوطني للمتميزين في سوريا، بعد إنهائه الصف التاسع (الثالث المتوسط) بمعدل 308 من 310، حيث اختير لإجراء اختبار الانضمام للمركز الوطني للمتميزين ونجح في الحصول على المركز الأول على مستوى مدينته، والثاني على مستوى سوريا، ليصبح واحداً ضمن 75 طالباً وطالبة من كل أنحاء سوريا في مثل عمره الذين انضموا للمركز.
نجاح محمد في الانضمام لهذا المركز والتميز فيه أيضاً كان بفضل موهبته الفريدة، إذ كان اختيار الطلاب في هذا المركز لا يعتمد فقط على كونهم أوائل بمدارسهم، بل أيضاً جرى اختبارهم في مستوى الذكاء والتحصيل العلمي والشخصية والحواس، في اختبارات ثلاثة.
فيما درس الشاب بالمركز الذي افتتح في 27 يوليو/تموز 2009، لعامين ونصف العام في مقره بمدينة حمص، قبل أن يُنقل إلى ريف العاصمة دمشق عقب اندلاع الثورة السورية، حيث درس هناك الفصل المتبقي، قبل أن يحصل على الشهادة الثانوية من المركز صيف العام 2012 بمعدل 93%، حيث كان هذا المعدل هو الثالث على مستوى المركز بأكمله.
كان المركز الوطني للمتميزين افتتح بمرسوم من رئيس النظام السوري بشار الأسد في العام 2008، وذلك لجمع أوائل الطلبة على مستوى سوريا، ليدرسوا الثانوية العامة في مدرسة داخلية مخصصة بمناهج علمية وتجهيزات متقدمة، وتحت إشراف خبراء أجانب بجنسيات مختلفة، وذلك لتحضيرهم للابتعاث للدراسة بجامعات عالمية، تمهيداً لافتتاحهم جامعات جديدة داخل سوريا.
الجانب العملي كان سمة أساسية يومية في التدريس بالمركز، حيث لم يكن الاهتمام بالمناهج الدراسية كبيرًا بقدر الاهتمام بالتدريب العملي في المختبرات المجهزة، إذ درس الطلاب بنظام model الذي اعتمد على طرح الطلاب للأسئلة للحصول على المعلومات، ومن ثم تقويم الطلاب بواسطة جهاز حاسوب، كما كان يقام مؤتمر علمي كل أسبوع يقدم فيه الطلاب ما جمعوه من مواد علمية، أيضًا كان يقدم الطلاب مشاريع تخرج في كل فصل دراسي بالإضافة لمشروع نهائي بالعام الثالث.
بلا مال ودون كتب.. المركز الأول بالهندسة!
انقطع زمزم عن الدراسة لـ 6 أشهر بعدما انتقل مع عائلته إلى تركيا، واستقروا في مخيم، فيما انتقل هو إلى داخل تركيا، وذلك في سبيل تحقيق حلمه في دراسة هندسة الـ mechatronics (تخصص يجمع بين الهندسة الميكانيكية والالكترونية والتحكم والبرمجة)، حيث درس اللغة التركية واستعد لاختبار القبول الجامعي.
وقال الشاب البالغ من العمر 22 عاماً في حواره مع موقع "عربي بوست" إن اختياره لهذا القسم خصيصاً لأنه اعتبره مفتاح للإلمام بالعديد من الأقسام الهندسية من الميكانيكا والالكترونيات والبرمجة والتحكم والكهرباء وغيرها من الأقسام، فضلاً عن حبه الشديد للتقنية والتكنولوجيا، ورؤيته أن العالم العربي المُستورِد للأجهزة التقنية بحاجة لمن يسد ثغره التقني ليحوله لبلد منتج بدلاً من مستورد.
وبسبب أن المجال الذي اختاره حديث نسبياً (نشأ قبل نحو 30 عاماً)، فلم يكن موجوداً بكثير من الجامعات، ولم يساعده الوضع المادي المتعسر وقت الخروج من سوريا على اختيار جامعات عالمية للدراسة، لذا قدم زمزم في ثلاث جامعات تركية، بينهما الجامعة الأولى في هذا المجال على مستوى تركيا، وقدم بالأخريين للاحتياط حال عدم نجاحه باختبار القبول، لكن بفضل موهبته وذكائه الكبيرين تخطى اختبارات القبول بالجامعات الثلاث، فيما قرر أن يكمل في مستهدفة الأكبر، وهو جامعة Yıldız Technical.
لكن دراسته لتلك الاختبارات لم تكن طبيعية كأي طالب، إذ كان يقوم بتصوير الكتب بالهاتف المحمول لعدم قدرته على شراء كتاب سعره لا يتجاوز 5 دولارات، فيما كان يدرس باستخدام برامج كالرسام لوضع الإشارات وتحديد المعلومات التي يقرأها على شاشة الحاسوب، وقد استطاع بتلك الطريقة تعلم اللغة التركية، ودراسة منهج المرحلة التأهيلية للقبول الجامعي.
كما أنه استطاع التفوق في جامعته رغم كل المعوقات، إذ حصل على المرتبة الأولى في السنوات الثلاث التي درسها حتى الآن، إذ حصل على معدل 100% بالسنة الأولى، و98% بالسنة الثانية، وانخفض لـ90% في السنة الثالثة بعد زواجه ولجوئه للعمل بجانب الدراسة لتحصيل المال.
كما تحدث عن عمله على بعض الأبحاث العلمية، بجانب الدراسة والعمل والمسؤوليات الاجتماعية، إلا أنه فضل عدم ذكرها.
عمل ودراسة في آنٍ معاً
روى زمزم في حديثه لـ "عربي بوست"، أن الظروف المادية لم تكن عاملاً مساعداً لهذا التميز، بل على العكس، فقد اضطر للعمل في السنة الثالثة من الدراسة، خاصةً بعد زواجه والتزامه بمسؤوليات خاصة، على الرغم من أنه من المعارضين لفكرة الجمع بين العمل مع الدراسة، حتى لا يأتي أحدهما على وقت الآخر.
اختار زمزم أن يعمل بالعلم أيضاً، حيث قام بتدريس اللغة الإنكليزية بأحد المعاهد التركية لتعليم اللغة، كما أخذ يدرس المواد الجامعية الصعبة لأصدقائه في منزله، حيث حول بيته لصالة دراسية متواضعة بموارد بسيطة كلفته نحو 150 دولاراً.
وخشية أن يتحول عمله إلى مشروع تجاري، أكد أنه كان يحسب احتياجاته الشهرية الأساسية، ويقوم بالتدريس للحصول على القدر الكافي من المال الذي يحتاجه فقط، رغم أن هذه الفكرة يمكن أن تدر عليه أرباحاً كثيرة، إلا أنه فضل مراعاة ظروف زملائه المادية ووقته للاهتمام بالدراسة، ليُحصل فقط مبلغ 1000 ليرة شهرياً (300 دولار أميركي تقريبًا – أقل من متوسط الدخل في تركيا).
تعرَّفا في المركز وتفرَّقا 3 سنوات.. ثم تزوجا!
تعرف زمزم على زوجته فاطمة الشيخ علي (21 عاماً) في المركز الوطني للمتميزين، حيث كانت تدرس بالدفعة التالية له، إلا أنه مع إيقاف المركز الدراسة لدفعتها، وانتقاله هو خارج سوريا، انقطعا لـ3 سنوات دون أن يعرف عنها شيئاً، خاصةً مع توقف دراستها بشكل نهائي ووفاة والدها في الثورة السورية.
لكن الصدفة جمعتهما من جديد، حيث تمكن من التوصل لمكانها، بعدما انتقلت للإقامة بأحد المخيمات التركية، إذ مرت فاطمة بتجربة مشابهة بعض الشيء لتجربته، حيث أقامت لفترة بمخيم لجوء بمدينة كلس التركية، حيث أكملت هناك دراستها الثانوية وحصلت على معدل عالٍ، ثم انطقلت إلى اسطنبول وحضرت لاختبار القبول الجامعي كما تعلمت اللغة التركية.
خطب محمد فاطمة أثناء وجودها بأحد مخيمات اللجوء بتركيا، لكن الظروف لم تساعدهما على الزواج سريعاً، إذ اضطرا للجلوس في سكن جامعي خاص بالشباب أو الفتيات، بسبب الصعوبات المادية التي عطلت الزواج لفترة.
وبزواج متواضع في حفلٍ صغير أقاموه بمخيم للاجئين، تزوج محمد فاطمة وجمعهما بيت واحد بسيط، لم تطلب فيه فاطمة الكثير من التحضيرات والتجهيزات، إذ تقتصر مصروفاتهم على دفع الإيجار والفواتير والطعام فقط، حتى أن أشياء أخرى قد نعدها أساسية من شراء الملابس لم يعيروها اهتمام بقدر اهتمامهم بالتحصيل العلمي، إذ تدرس فاطمة بكلية الطب البشري بعد التحاقهما بجامعة اسطنبول، بينما يدرس زوجها هندسة الميتاترونيكس.
بينما يعتزم الشابان أن يقيما حفل زفاف مرة أخرى مستقبلًا عندما تسمح الظروف بذلك، حيث فضلًا أن يشتركا في درب العلم، ويبدءا حياتهما بتجهيزات متواضعة حتى تسنح الفرصة بالأفضل.
زملاء تفرق بهم طريق العلم
كقصة محمد وزوجته فاطمة، هناك العديد من طلاب المركز الوطني للمتميزين الذين لم تتوفر لهم فرص طبيعية لإكمال دراستهم، إذ تفرق أصدقاؤه على دول العالم، حيث هاجر 3 منهم للسويد، 3 غيرهم بألمانيا، وآخر بأميركا في منحة دراسية، وغيره في فرنسا.
بعض أصدقائه لم يتمكن من إكمال تعليمه بسهولة، فذكر زمزم قصة صديق له سافر إلى السويد وقدم في جامعة كأي طالب مغترب، فيما يتكبد مصاريف كثيرة سنوياً، كما لم يستطع بعد إبراز قدراته الإبداعية نتيجة الظروف المحيطة من اختلاف اللغة والمجال الدراسي.
بينما قام 3 أشخاص آخرين بفسخ العقد مع المركز ليكملوا تعليمهم منفردين لتفضيلهم أن يتخرجوا في أفرع جامعية مستقبلها معروف وواضح مثل الطب البشري.
أما هؤلاء الذين أكملوا دراستهم بالمركز في سوريا فقد اضطروا إلى دخول جامعات سورية تقليدية، سواء في المعهد العالي للعلوم التقنية والتكنولوجيا، أو في معهد تطبيقات الليزر بدمشق، وأيضاً في التخصصات العامة بالجامعات السورية .
حيث حاول النظام السوري دمجهم في أعلى تخصصات علمية موجودة حالياً بسوريا، لكن ببرامج تعليمية مختلفة ومبانٍ منفردة، حيث يقوم أساتذة جامعيون غير ملمين بدرجة كافية بالبرامج الدراسية الخاصة بتدريس هؤلاء الطلاب، عكس الدراسة بالمركز، حيث كان يتم اختيار المدرسين عبر مسابقات لترشيح الأفضل، ثم يخضعون لدورات تأهيلية قبل التدريس.
وذلك بسبب أن النظام السوري لم يتمكن من إكمال البرنامج التعليمي بالخطط الموضوعة سابقاً، فقد كان مُخططاً لافتتاح تخصصات لعلوم الليزر، والطاقات الحيوية، وهندسة الميتاترونيكس، وهندسة الفضاء، والذكاء الصناعي، فيما لم يتم افتتاح أية أفرع جديدة، ومن المنتظر أن يتم ابتعاث هؤلاء الطلاب من قبل الحكومة السورية إلى روسيا لإكمال الدراسات العليا.
ملتقيات علمية ونشاطات طلابية
الظروف لم تقف حائلاً كبيراً أمام زمزم في تحقيق بعض أهدافه، إذ كون ملتقى طلابياً علمياً مع زملائه، قائماً على التطوع والتعاون بين أعضائه الذين وصل عددهم حالياً إلى 80 طالباً سورياً، بعد عامين من افتتاحه.
هدف الملتقى الأساسي هو جعل أعضائه متميزين وملمين بمجالهم بتثقيفهم وتوفير الفرص لهم للوصول لمرحلة الإنتاج العلمي بالتشارك بين جميع أعضائه بمجالاتهم العلمية المختلفة، وقد قاموا بعقد نحو 60 نشاطاً لتقديم الدعم العلمي والثقافي للطلاب، كما حاولوا بناء علاقات مع المؤسسات العلمية والإعلامية والاجتماعية أيضاً.
ومن بين أعمال المؤتمر الناجحة التي رواها زمزم مؤتمر سمنار العلمي 1، الذي حضره مسؤولون بالحكومة التركية والمنظمات الدولية وأعضاء بالأمم المتحدة، ومديرية الصناعة والتكنولوجيا، وسط أكثر من 650 شخصاً، تحت رسالة أن العلم متعة ووسيلة إعمار، لبحث التجارب العلمية التي قد تساعد في حل مشكلات نظم التعليم بمنطقة الشرق الأوسط.
فيما يطمح أعضاء المؤتمر للتوسع بإقامة مؤتمر علمي خاص بكل جامعة تركية، لصنع لبنة للتفكير الجماعي لإيجاد حلول لكافة المشاكل العلمية التي تواجهها المنطقة العربية، وبدؤوا ذلك بالفعل بإقامة فرع بجامعة سلميان بمدينة إسبرطة، ويسعون مستقبلياً إلى إقامة مشروع عام يضم المتميزين بكل مؤتمر فرعي لإنتاج عمل تخصصي في البحث والإنتاج العلمي.
المواهب العلمية ليست أولى اهتمامات تركيا
يرى زمزم أن عدم وجود منظمات سورية على درجة عالية من التنسيق العالمي في مختلف المجالات، من أهم الأسباب التي تجعل الطلبة السوريين يقعون في صعوبات جمة تمنعهم من إكمال تعليمهم.
كما رأى أن الدولة التركية لا تعطي هذا الملف اهتماماً كبيراً، إذ تضع على رأس أولوياتها ملفات أخرى ربما تراها أكثر أهمية من رعاية الطلاب والمواهب العلمية مثل تلبية المتطلبات الأساسية لملايين اللاجئين الذين تستضيفهم، مؤكداً على أهمية لفت الانتباه للمجال العلمي بصورة أعمق وأكبر من الحالية، مفسراً ذلك بالنفع المشترك الذي سيعود على الطرفين حال الاهتمام بالمواهب العلمية.
كما قال زمزم إنه لمس عدم وجود تنسيق علمي على مستوى عالٍ بين المواطنين السوريين والجهات الحكومية التركية لرعاية المواهب العلمية أو لتمكينها من الوصول للمراكز العلمية بدرجاتها المختلفة.
واستشهد على ذلك بقصة صديقه، عبدالوهاب عميرة، الذي لُقب بـ "أصغر مخترع سوري"، فيما لم يقدم له أي دعم لقدراته العلمية من قبل المؤسسات العلمية، حتى واجه حالة جمود لم يخترع فيها الكثير من الاختراعات الجديدة.
كما لم يسهل له الطريق لتسجيل براءات اختراع، رغم عمله على العديد من المشاريع العلمية اشتملت أبحاثاً في الطاقة النووية، والطاقات المتجددة، وأخرى عن التخلص من المخلفات الكميائية في الفضاء، وتوليد الكهرباء واستخراج الماء بواسطة مواد بسيطة، بالإضافة لعمله على مشاريع لاختراع ناقلات للوقود.
فيما انتهى بعميرة المصير للذهاب إلى أميركا كمهاجر، بعدما واجه صعوبات في أبسط الأمور مثل القبول في الجامعة.
طموحات علمية كبيرة
يطمح الشاب العشريني للحصول على فرصة للتدرج في المستوى الأكاديمي وإكمال الدراسات العليا، والتعيين كأستاذ مساعد في جامعة مرموقة علمياً، وأن يكون عمله بالمجال الأكاديمي على مستوى دولي، وأن يكون صاحب قرار في الأمور التقنية بالدولة التي يكون بها، ليحاول أن يقود نهضة بموضوع العلوم بشكل عام، والأقسام الهندسية والتكنولوجية بشكل خاص.
ويبدو أن هذا الشاب هو ابن أبيه، الذي لم تساعده أيضاً الظروف لتحقيق طموحاته العلمية، إذ درس والده تحاليل طبية، ثم درس التعويضات السنية التي اتخذها كوظيفة، وبعدها درس طب الأسنان لمدة عام، ورغم الظروف التي تعيشها الأسرة حالياً بالمخيم وتخطي أعمارهم مرحلة الدراسة الجامعية بكثير، فإن والد محمد قرر أن يلتحق مرة أخرى بالجامعة ليكون زميل صف، مع ابنه وزوجته، في إحدى جامعات مدينة أضنة التركية، حيث سيتخرجان معاً!