أي مكان هو الأكثر ملاءمة لاستقبال "إرنست هيمينغواي" شاباً، "جيرترود شتاين"، الرسام "بيكاسو"، الكاتب "سكوت فيتزجيرالد وزوجته زيلدا، و"سلفادور دالي"؟ أي مخرج يمكنه أن يبعث حقبة العشرينيات من القرن الماضي وكأن هيمينغواي لم ينتحر بعد، وفيتزجيرالد لم يطرحه السُّل أرضاً، و"دالي" ما زال يحدق بإمعان في العالم.
الجواب وبالتتابع، باريس والمخرج وودي آلن؛ باريس حين فتحت ذراعيها للكثير من الأميركيين المغتربين، ومنحتهم فرصة كان لها أثر السحر على الأدب الأميركي.
أعجبت كثيراً بهذا الفيلم، كنت مأخوذة بشخصية "هيمينغواي" الكاتب الذي يمثل في نظري المعنى العميق والحقيقي للأدب الأميركي وللرجولة الأميركية.
وككاتبة أحببت أسلوبه المتقن، جمله القصيرة، ومفرداته المنتقاة بعناية وبحزم، أحب أيضاً شخصيته الشجاعة المندفعة؛ حيث كان كاتباً ميدانياً يلامس قلمه النار، خصوصاً حين كان مراسلاً حربياً، لم يكن أبداً كاتباً ينعم ذقنه ويجلس وراء آلته الكاتبة.
في فيلم "منتصف الليل في باريس" أتبث العبقري "وودي آلن" قدرته على تجسيد روح باريس في تلك الحقبة، باريس التي هي بمثابة حفلة متحركة كما وصفها هيمينغواي.
واستطاع ببراعته المعهودة أن يمنح هالة من العظمة على شخصية "هيمينغواي" التي جسَّدها الممثل الأميركي "Corey Stoll " الذي تألق في سلسلة "House of Cards"؛ حيث يبدو كاتباً واثقاً من نفسه، ويظهر "سكوت فيتزجيرالد" كاتباً يقضي أكثر وقته في ملاحقة زوجته "زيلدا" وإدمان السهر لقد كان "هيمينغواي" و"فيتزجيرالد" صديقين قريبين ويمكن التأكد من هذه الصداقة العميقة عند قراءة الرسائل التي تبادلاها، الفيلم يطرح كذلك السؤال:
ما هي باريس بالنسبة للأميركيين؟ هل هي الماضي الأفضل؟ هل الماضي هو حقاً الأفضل؟ هل الأدب الذي كتب في الماضي هو الأكثر جدارة بالتقدير؟ أم أن الحنين إلى الماضي هو مرض يصيبنا حين نكون غير راضين عن أنفسنا هنا والآن. باريس من دون شك كانت جنة الفنانين والكتاب، باريس ساحة لا كونكورد شانزي ليزي قصر فيرساي.. باريس وموسيقى الجاز الفرنسي والنبيذ والجبن والأكل الفرنسي.. قد تكون هذه هي صورة باريس بالنسبة للأميركي العادي، أما بالنسبة لبطل الفيلم الكاتب الهوليوودي "جيل" الذي يؤدي دوره الممثل "أوين ويلسون" بشعره الأشقر الأشعث وأنفه المكسور، وجه يناسب تماماً صورة الكاتب الذي يملؤه التردد وعدم الرضا عن عمله ككاتب سيناريو في هوليوود، والذي يردد أن باريس هي جنة الكاتب وملهمته، وقد جاء إليها من أجل أن يكون جزءاً من أسطورة الماضي المشرق للكتاب الأميركيين.
من أجل مقاربة هذه الفكرة وأفكار أخرى لم يحوّل المخرج باريس في الفيلم إلى متجر للذكريات والأيقونات؛ بل تشبث بأسلوبه المعتاد، أسلوب "وودي آلن" الذي يحيط أفلامه بالأناقة؛ حيث الجمال له ثمن ويستحق الكثير من العناء، لقد سوّر الفيلم من بدايته حتى نهايته بموسيقى وأغانٍ رائعة من الجاز الفرنسي، وقد يكون ظهور الجميلة "كارلا بروني" السيدة الأولى سابقاً لفرنساً؛ لكي تؤدي دور دليل في متحف "رودان" حبة الكرز التي تزين الحلوى.
في نهاية هذا الفيلم "الفانتازي" يتحول البطل/ الكاتب "جيل" من شخص غير مكتمل تائه غير واثق من فنه وكتابته.
الكاتب الذي طلب من "هيمينغواي" أن يقرأ روايته ويقول رأيه فيها فيجيبه هذا الأخير بأن الرواية سيئة رغم أنه لم يقرأها؛ لأن الكاتب الجيد في نظر "هيمينغواي" هو بالأساس كاتب واثق من نفسه ومن فنه ولا يحتاج آراء الآخرين.
في العمق، فيلم "منتصف الليل في باريس" هو عن الحنين وعن حلاوة العيش في الماضي وعن الذكريات وعن الأماكن والأشخاص الذين نحبهم، الفيلم بالنسبة لمحبي الأدب، الأدب الأميركي خصوصاً، هو شكل من العناق الحميم لأرواح يعرفها أرواح عمالقة الأدب والفن الذين ضمتهم باريس في لحظة من تاريخها..
"منتصف الليل في باريس" هو كذلك رسالة حب من "وودي آلن" إلى باريسه، باريس الموسيقى والجسور والقصور "باريس" التاريخية التي كانت وربما لا تزال مدينة الفن والثقافة والأضواء والجمال والحرية، باريس الأيقونة التي تستحق أن نضرب لها موعداً في منتصف الليل مثل سندريلّا تماماً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.