عندما تسكن الأحداث وجدانك، ويقلقك الواقع جداً، تعود بك الذاكرة إلى الماضي، إلى أبرز حدث وقعَ في عالمك، قبل عامين ونصف تقريباً من الآن، ليس بالزمن البعيد والطويل، عندك سيدي القارئ، ولكنّه كان طويلاً جداً على من عاش تفاصيله وأحداثه، قبل عامين وتحديداً يوم الخميس، كعادتنا خرجنا إلى أعمالنا نستأنف يوماً جديداً تشرق فيه شمس الأمل، لكنّ إشراقتَها لم تكتملْ علينا منذُ ذلك اليوم، ذهبنا إلى أعمالنا والطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، مضت الساعات الأولى من اليوم الموعود، والحدث المشهود، انتصف النهار وإذا بنا نسمع محافظ مدينتنا يعلنُ حظراً للتجوال في المدينة، بسبب أحداث جرت في مدينة أخرى، عدنا إلى ملاذِنا إلى بيوتنا، حانَ موعدُ النوم، ذهب كلٌ منّا إلى مضجعه، آملين أن نستيقظ ونرى الحياة قد استأنفتْ من جديد، لا تتخيل الحدث بهذه السهولة، إذا بنا نستيقظُ على أزيز المدافع والرصاص.
رباه ماذا حدث؟! أهي الحرب من جديد؟ أشم رائحة موت من كل مكان، أشم موت مدينة موضوعة على فراش الموت منذ سنوات، استيقظنا وليتنا نمنا كأصحاب الكهف، ننام طويلاً علّنا نستيقظ على حياة أخرى غير التي عشناها فيما بعد، إذاً هي حرب، إذاً هي قتال، إذاً هي موت، إذاً هي خوف، سمّها ما شئت، لا أستطيع أن أصف كل ما يجول في فؤادي؛ لأني أتقطع وأنا أكتب هذه الكلمات، مضى اليوم الأول والثاني والثالث، وما زالتِ المعاركُ مستمرةً، وأرى أُناساً يتوافدون من كل حي من الأحياء التي تدور فيها المعارك، يتوافدون صوب الجانب الأيسر من المدينة، انتصف النهار بدأت أصوات الرصاص تقترب، من منطقتنا ترى الخوف يُخيّمُ على وجوه أهل الحي، بدأ حديثٌ بيني وبين نفسي، ترى نبقى في بيتنا هذه الليلة أم نخرج من الآن؟ هل بقاؤنا أفضل أم خروجنا؟ حديث طويل دار بيننا، أردت أن أكون صاحبَ القرار، لكنّي كنتُ أتظاهرُ بأنّي أشدُّ قوةً وحزماً، لعل الأمور تسيرُ إلى خيرٍ، دخلت إلى البيت ناداني أبي يهمسُ بأذني: يا ولدي ما رأيك أن نخرج من هنا، كنت مضطرباً حقاً كيف لإنسان أن يترك داره، أن يترك وطنه الصغير، وقفت حائراً أمامه، وقلت له: خذ العائلة واتركني هنا، اتركني في وطني الصغير، هنا تدخلت أمي، وقالت: إما أن نبقى جميعاً أو أن نخرج جميعاً.
تشاورنا في الأمر وقررنا الخروج، أخذنا الأمتعة الخفيفة الحمل التي نحتاجها في طريق قلّما سلكناهُ مشياً على الأقدام، سِرْنا متوجهين صوبَ جسر الرابع، نمشي ونرى الناس معنا يمشون ألوفاً من البشر، حشود غفيرة تتوجه صوب الجانب الأيسر، هنا بدأ الحديث على الجسر:
ترى متى تنتهي هذه الحرب؟!
ترى ما ذنب هذه الأطفال؟!
نسير مسافات طويلة، ترى ما ذنبنا نحن أن تدور الحرب في مدينتنا؟ أخذت أحدث نفسي لو كنت من أهل القبور وألا أعيشَ هذا الواقع، حديث ملؤهُ الألم رأيت أطفالاً يبكون، كأن لسان حالهم يقول: إلى أين نمضي يا أبي؟ لماذا خرجنا مسرعين من بيوتنا؟ ما هذه الأصوات المخيفة التي نسمعها؟ يا أبي لماذا هذا الوطن لا يعلنُ انتحاره؟ أسئلة قد تعجز عن الإجابة عنها.
أسير وأحدّث نفسي إذا كانت هذه البداية بهذه المشقة والألم، بهذه المحنة والجراح، ترى كيف ستكون نهايتنا؟
لعل المأساة تعيد نفسها، مضى عامان ونصف والموصل قطع فيها كل جسور الوصل والأمل، بدأ الحديث العميق عن مستقبل المدينة، وكيف ستكون صورتها أثناء الحرب، أجل لقد دخلت الموصل في نفق مظلم، هي قد تكون ولادة عسيرة، لتاريخ جديد فيها، مرت عليها أيام قاسية، عامان وهي تحت الظلم والحصار، قصف من السماء وظلم في الأرض، حصار على أطرافها واضطهاد في داخلها، تجرعت كل ألوان العذاب، مدينة محيت فيها البنيان، وفُقِدت فيها قيمة الإنسان، لا تسأل عنها كثيراً فهي قد تصدرت نشرة الأخبار، حديثي على الجسر يطول، مشيت وإذا بي أرى كثيراً من أقاربي، ما جرى لنا أيها الناس، هل ما زلنا في بطن الحوت؟ حقاً التقمنا الحوت أم أنها أضغاث أحلام؟ حقيقة الموصل في بطن الحوت منذ ذاك اليوم والموصل في بطن الحوت.
استمر مشوار السّير على الأقدام من قبل صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بنصف ساعة، وقتٌ طويلٌ جداً وربما كانت هذه الساعات مع القلق والتفكير بمثابة السنين العجاف، قطعنا الجسر كاملاً بحديثٍ ملؤه الأمل، رأيتُ الناسَ يحملون أعزَّ الأشياء عليهم، فهذا قد حمل معزوفته، وذاك قد حمل حاسوبه، أما أنا فخرجت وأبقيت كل شيء، المسير مزعجٌ جداً، وخصوصاً مع وجود الأطفال والمعاقين والمرضى والنساء، كان حينها أخي الصغير لم يبلغ الثالثة من عمره، ربما كان مستمتعاً بالمسير؛ لأنه كان محمولاً على الأكتاف، بعيداً عن هذا هو قد وعى اليوم، بدأ يكثر على لسانه قد قصفنا، ضربتنا الطيارة، مأساةٌ حينما تتشكل الطفولة في بلادنا على هذه المفردات والألفاظ، تجاوزنا إذاً الجسر بدأ الناس القريبون في تلك الأحياء يمدون يد العون لمن يأتي ولمن لا يجد مأوى له، كانت صورة إنسانية اجتماعية قلّما تراها، طريق طويلٌ، تعب الكل، نتكلم أحياناً، نسكت قليلاً، نغمض أعيننا قليلاً عسى أن يكون هذا طيفاً وليس واقعاً، أفقْتُ من كل هذا لأجد نفسي قد وصلْتُ إلى بيت أقاربنا، هناك نزلنا واسترحنا قليلاً، ثم جاء الليلُ الطويل، الليل الذي لا يكاد ينتهي، أحاديث ملؤها الحزن واليأس.
عذراً في بعض الأحيان الواقع يجعلك تفقد الأمل، ربما لم ينمْ أحد منّا تلك الليلة، الكل يترقب ماذا سيحدث، هل تستمر الحرب؟ أتنتهي الحرب؟ انتهى كل شيء لن تنتهي الحربُ يا ولدي عن قريب، طويلٌ هذا النفق يا ولدي هذه المرة، وها أنا اليوم أتابع سير المعارك في المدينة وهذا الاقتتال الحاصل في أحيائها وأزقتها التي كانت في يوم من الأيام لا تسمع فيها إلا أحاديث الحب والغرام والعشق والهيام، ها هي اليوم غدت مسرحاً للاقتتال والإجرام.
أريد أن أتخيلَ من بقي منّا هناك، تُرى ينام الليل، أم ينتظر المعارك لتقترب منه ليبدأ المسير من جديد صوب جهة ربما لا يعرف أين تأخذه هذه المرة، ثلاثون يوماً ومن قبلها أشهر مرت على هذه المدينة تبيت على صوت المدافع، وتستيقظ على صوتها مرة أخرى، لا أدري أينام الأطفال هناك؟ أيلعبون في نهارهم؟ أم حُرِموا حتى الخروج من البيوت؟ موتٌ يسيرُ في أزّقة الموصل، يبْحثُ عن كل من يحلم بغد جديد، ربما هذا الغد سيكون في ظل خيمة أو حفرةٍ من حفر الموت التي تنتظرهم في طرقهم، حديثٌ طويلٌ متشعبٌ ملؤه الألم، ما كنتُ أرغبُ بالحديثِ ولا الكتابة فيه، ولكني أرغمتُ نفسي على الحديث عنه، عسى أن تكون رسالةً لإنهاء هذه الحرب الشعواء، وميلاداً جديداً لمدينة الموصل الحدباء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.