اغتالتني عائلتي وأنا في الـ 14 من عمري.. وهكذا عشت متزوجة وأنا طفلة

كان بإمكاني ترجيهم ليظلوا، لكن كرامتي لم تسمح لي آنذاك أحسستُ بالشفقة على حالي، هكذا فارقتُ أسرتي، أنا ابنة ١٤ عاماً، تزوجتُ برجلٍ أكبر من أبي، أهو زواج مصلحة أم تصفية حسابات، كل ما أوقِنُه أنني خُذِلت، تُركت، اغتُصبت في طفولتي، الحياة تُناديني للنضج قبل أوانه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/29 الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/29 الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش

كئيبة هي الحياة البشرية، تُذيقك مرارتها في كل تحية صباح تقالُ لك، تناديك للرفاهية وتقاضيك بعمرك، تستغلُّك، تُفقدك الثقة في الأقربين، تناديها بصوت مختنق هل من مخرج، لكن لا يجيبُك سوى صدى صوتك.

أدار أبي مقود السيارة، بينما أمي وأختي تلوحان لي بالوداع ودموعهما تتهاطل، أبي لم يُدِر وجهه ناحيتي قط، يحب أن يكون صلباً في مِثل هذه المواقف، كلما سقطت دمعةٌ على خدِّه مسحها؛ لكي لا يلاحظ أحد، أنا في الضفة الأخرى أتكبدُ عناء البكاء، روحي تغادر بين كل ثانية وثانية، أستمر في مشاهدتهم يغادرون، والدموع تتهاطل، دموع مذاقها لم يكن طبيعياً، دموعٌ مغلية ملطَّخة برماد الدمار الذي وقع داخلي.

أأحسستَ يوماً أنك تريد البكاء لكن لا تجد الوقت لذلك، لا تساعدُك الظروف؟ تتعامل مع التنفس بصعوبة، عينك على من يريد تركك، تتعلق به، تحاول إمساكه، تُناديه، عيون تشتهي الانغماس في حضنه والاستيقاظ من هذا الحلم، كان بإمكاني الصراخ في تلك اللحظة، كان بإمكاني ترجيهم ليظلوا، لكن كرامتي لم تسمح لي آنذاك أحسستُ بالشفقة على حالي، هكذا فارقتُ أسرتي، أنا ابنة ١٤ عاماً، تزوجتُ برجلٍ أكبر من أبي، أهو زواج مصلحة أم تصفية حسابات، كل ما أوقِنُه أنني خُذِلت، تُركت، اغتُصبت في طفولتي، الحياة تُناديني للنضج قبل أوانه.

منزل ضخم، شموخٌ في الأرجاء، حمام متسع، غرفة كبيرة وصقيعية كالموت، أقمشة بيضاء، نافذة بجوار السرير، تطل على الطريق، نفسه الذي سلكه والدي.

أدويةٌ مختلفة فوق الطاولة المجاورة للسرير تزيد من عمر الجاني أو بمصطلحٍ آخر زوجي على سنة الله ورسوله، ترمقني تلك العلب التفت إليها بين الحين والآخر ورغبة عارمة تدعوني لأن أنهي حياتي بشريط من الدواء، لكن الموت قادم، أعلم هذا جيداً، هو الآن يفتح الباب ويتسلل إلى الغرفة، بنظراتِ انتصار وكأنَّه حقق مبتغاه، قَطع أشواطاً متقدِّمة في الحياة وهو على استعداد لإضافة الرصيد.

ماذا يفعل المرء عندما ينطفئُ شيء ما داخله؟ حين يستيقظ ضارباً بيده على صدره، رباه! كان هنا شيء ينبض. مستلقٍ هو فوق السرير، يغفو في نومه، يتلذذ بإنجازِه. قل لي هل شعرتَ يوماً بما أشعر به؟ هل مرت على قلبك قسوة هذا الزمن؟

أحاول استيعاب ما حدث، ضاعت مني حياتي، مُزِّقت، تناثر رذاذ شرفي على السرير، بُكائي لم يكن له معنى، أختنق، أُحاول كتمان أنفاسي، دقات قلبي تتسارع، يداي أكاد لا أحس بهما من شدة الخوف، قُصفت، أصبحتُ شخصاً آخر لا أريده، كبرتُ بسرعة، غادرتُ البيت، هربت للعذاب، خلعتُ قلبي ومشيتُ حافية، أجري تارة وأمشي تارة أُخرى، وعناوين الأيام القادمة تطبع في مخيلتي.

بعض الأشخاص قد جاءوا حرفياً من العدم، لن يسطَعوا أبداً، لن تنير الطريق في وجوهِهم، حكَمت عليهم الحياة بالتَّشرد، تُرِكوا في منتصف جملة.

أتابع السير في طريقي رغم أن الأبواب التي تظهر في الأفق مقفلة، ثيابٌ رَثَّة ومتسخة، وجهٌ مذهول، دموعٌ متناثرة، نفسِيةٌ محطَّمة، كلها علامات الاستسلام لوردةٍ منيرة وعَطِرة قُطفت ودُعست، كلما تذكرتُ أن أبي فرط بي بهذه البساطة، شعرت بالندم على كل مرةٍ أخبرتُه وأنا سعيدة، أنه أحسنُ أب.

ستعلمُك الحياة أنَّها لا تقف على أحد، ستجد نفسك تستطيع العيشُ بالجميع وبِدونهم، تتثاءب بعمق، تطفئُ النور، وتستسلم وسط مدينة مليئة بالوجوه، سيارات، أضواء، ضحكات، وسط مدينةٍ تنبضُ بالحياة، ستَرفعُ الراية البيضاء، وتُتابِع السير، يستهزئ لمظهرك هذا، يحدقُ بِك هذا، ويشفقُ عليك هذا، نظراتٌ أقل ما يُقال عنها إنَّها تقتل، تخترق جدار القلب وتطعنه.

نحن لا نتعلم إلا إذا تم صفعنا وحتى مع الصفع البعض لا يشعُر، لكن ألم يكن غِشاً في حقي؟ ألم يكن على الحياة مراجعة أوراقها قبل كل هذا؟ جدار رحمي لم يمزَّق بعد، أنا قاصر.

كنتُ أعرف أن القدر حينما يأتي بأشياء لا يسعُنا إلا أن نبتلع الرضى ونعيشها بصمت، بصمت مخيف ووحدانية. منذ ذلك الحدث وأنا لم أعد أعرِفني ولم أعهدني أبداً بهذا الحال، أنا الطفلة اللافتة التي تملأ قهقهاتُها المكان، كنتُ متقلِّبة المزاج، سريعة الانفعال، لكن في نفس الوقت لم تكن تغرِب شمسُ يومٍ حتى أسامح كل من آذوني، كبرت فتاة خجولة، لم أكن ألعب مع إخوتي، كنت أنفرد لقضاء أوقات لعبي في نسج حكايات حب بين الدمى، أجلس معظم الأوقات في زاوية الغرفة وحدي لألهو إلى أن تجيء شقيقتي التي تصغرني وتثير صخباً تُفسد فيه قصتي.

عندما أعود بذاكرتي لتلك الأيام، أدرك تماماً كم كنت طفلة محظوظة حينذاك، كنا أسرة صغيرة، نعيش حياة أقل ما يقال عنها إنها متناهية السعادة، لولا ما حدث، كان دائماً ما يقول لي تستحقين زوجاً عظيماً، فمضت الأيام وقدمني لعجوز مقرف، لا أعرف ما هي أسبابُك يا أبي، لكن من السخيف أن تقدم فلذة كبدك للموت بهكذا طريقة، من المؤلم أن يُرغِمك القدر على أن تكون شخصاً آخر.

لم يسعفني الوقت أنا من أسعفتُه في آخر لحظة؛ ليبقى لي ويترك لي فرصة معلَّقة أو صُدفة مفاجئة، ليعطيني مصيراً آخر، كان علي أن أضع بعضاً من الاحتمالات في كفةِ الخسارة، خطئي لم يكن كبيراً لأقول إنه لا حل لديَّ، بل كان بسيطاً تافهاً كقضمة فأرٍ صغير، جاءت من أكثر الأشياء قتلاً ووجعاً، ومن أقرب الناس حباً واحتراماً، كانت في "حسن الظن".

لم تكن يا أبي حاضراً كما يجب، كان يزداد شعوري بالوحدة كلما تذكرتُ ما حدث، كان غائباً شعور الانتماء حينما يقيدني هذا التيه وأغمض عيني، وأصرخ بملء خوفي، ما كان يجب عليك أن تمارس وجودك كما تفعل الأشياء التي لا نحبها، كالحياة تماماً، وإن ما أعرفه وأشعر به إلى الآن هو أن حاجتي إليك لا تزال عالقة وفي امتدادها، الذي لا يعرف مقدار ألمِه إلا الله، لا أعرفُ ما هذا الذي حال بيني وبينك ولكنني سأظلُّ أغفِر وأحبُّك يا أبي.
يؤذونك أولئِك الذين تخشى عليهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد