هنا مدينتي الصغيرة "برقو" بعيداً في داخل البلاد وفي أعالي الشمال الغربي التونسي، مهملة كغيرها من المدن الداخلية، ترى ما بداخلها من الإهمال والبؤس؛ حيث تتحوّل المصطلحات التي تملأ الصحف والإذاعات وخطابات السياسيّين من قبيل الفقر والبطالة، وغياب التنمية، وسوء البنية التحتية، إلى صور حيّة وواقع يومي يعاني منه آلاف السكان.
هذه المدينة يُحيي أبناؤها هذه الأيام بكل فخر واعتزاز الذكرى الثانية والستين لمعركة جبلهم الشامخ، ملحمة جبل برقو التي وحّدت التونسيين، من بنزرت إلى بن قردان، ضد العدو المستعمر، قبائل المثاليث والفراشيش وأولاد عيار وأولاد عون وغيرهم كلهم كانوا يدافعون عن تونس، ولا شيء غير تونس؛ لذلك انتصروا على العدو الفرنسي الذي قهرته إرادة شعب أراد الحياة بعزة.
شعب تزعمه أفراد من عامة الناس سكنوا الجبال الوعرة، ونعتوا بالفلاقة، من شمال ووسط تونس وجنوبها، عمال مناجم وفلاحون تشبّعت أياديهم بتراب أرضهم، يجنون رزقهم اليومي بعرق جبينهم، إلا أنهم استطاعوا حمل السلاح والقتال، تلبية لنداء الوطن ولاستقلاله.
رفعوا لواء الثورة المسلحة لتضع فرنسا وحكومتها أمام الأمر الواقع، أن بقاء الحال من المحال، خصوصاً بعد ما لحقها من نكسات عسكرية في حرب فيتنام، فتتالت كثير من المعارك الجبلية خلال الفترة الفاصلة بين مايو/أيار وأكتوبر/تشرين الأول 1954، وتوسعت المقاومة جغرافياً وبشرياً، وانضم لجبل برقو كثير من الثوار من قبائل وعروش أخرى، كما شارك فيها بعض الجنود التونسيين حاملين معهم بنادقهم الحربية والتحقوا بصفوف المقاومة.
أخذ المقاومون من جبل برقو فضاء لنشاطهم، وضمت مجموعتهم نحو 84 مقاوماً، 36 منهم من أبناء برقو، وانقسموا إلى أربع مجموعات، أولاها مجموعة بقيادة بلقاسم بالبوصي، ومركزها كاف الأحد بجهة الربع، وثانيها مجموعة الهادي التركي بكاف الظل بجبل بوتيس، وثالثها مجموعة بقيادة بلقاسم الجليطي ويساعده صالح بوطبة، وهو من جند الباي، ومركزها كاف الخويجة بدشرة بلوطة، ورابعها مجموعة الهادي بلباهي والهادي بلعباسية وتمركزت بالبحيرين.
أما القيادة العامة فقد كان يشرف عليها سالم الورغمي، أحد الجنود الفارين من جيش الباي، وعُين في هذه المهمة بإيعاز من الحزب الدستوري الجديد.
دارت الملحمة من 8 إلى 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1954، وكتب المجاهدون أسماءهم من ذهب، وخلدوا معركتهم في التاريخ (الربع ساعة الأخيرة الحاسمة) التي أرغمت فرنسا على الدخول في مفاوضات الاستقلال، ورفرف العلم الوطني التونسي الذي يغطي أجزاء كبيرة منه الأحمر القاني، تجسيداً لتلك الدماء الطاهرة لشهداء الحراك الوطني، الذين اختاروا طريق الكفاح والتضحية والشهادة في سبيل تحرير هذا الوطن، من أجل بقائه واستمراريته إلى يومنا هذا.
هذا النضال من أجل استقلال تونس كافأته الأنظمة المتتالية وعلى مدى ستين عاماً بزيارة وزير، وبنصٍّ رتيب في الجرائد والنشرات الإخبارية التلفزيونية والإذاعية: بتكليف من فخامة الرئيس، أشرف السيد الوزير، اليوم، بقاعة الاجتماعات بمعتمدية برقو من ولاية سليانة، على اجتماع عام إحياء لذكرى معركة برقو الخالدة.
وثمّن السيد الوزير بالمناسبة حرص فخامة الرئيس على تكريس قيم الوفاء والعرفان بالجميل للأجيال المتعاقبة من الشهداء والمقاومين والمناضلين الأبرار، الذين قدموا التضحيات الجسام في سبيل تحرير تونس من الاستعمار، ودعم مقومات عزتها ومناعتها وسيادتها.
فهل يا ترى غاب عن أعين السادة الوزراء ممن زاروا برقو أن الطريق المؤدي لروضة الشهداء في حالة سيئة للغاية، أم غاب عن أذهانهم أن سجلها النضالي أمام الاستعمار لم يشفع لها، حيث غيّبت تماماً عن المدّ التطوري الذي شهدته الكثير من المدن الأخرى؛ لذلك لازمها التهميش والنسيان، فلأكثر من نصف قرن وسكانها يمنّون النفس باللحاق بقطار التنمية.
مدينتي التي أعشقها لا يعرف أحد تفاصيل معاناتها سوى أهلها الذين فضل بعضهم التعايش مع الوضع القائم، بينما اختار بعضهم الآخر الهجرة للمناطق الساحلية أو العاصمة، وكأن قدر شبابها إما الرحيل إلى المدن الكبرى بحثاً عن لقمة العيش، أو الاكتفاء بما توفره إدارة المعتمدية من أيام معدودات في الحضائر، وأما البقية فالمقاهي ملاذهم الأول والأخير يقتلون وقتهم فيما لا طائل من ورائه جلوساً طيلة اليوم كالعجزة، راصدين كل غادٍ ورائح.
هل نتحسر على أننا عقدنا الآمال على حكومات ما بعد الثورة فلم نصب إلا وعوداً أو مشاريع مفرغة تكاد لا تختلف في شيء عما كانت تعده مختلف حكومات النظام البائد في تجزئة المشاريع للتبجح بكثرة عددها، وفي تفتيت الموارد المالية في برنامج صغيرة وضئيلة لا تخرج عن منطق البرامج الرئاسية المتمحورة كالمعتاد حول: إصلاح وصيانة التجهيزات الجماعية والصحية والتربوية، وصيانة بعض الطرقات وتعبيد بعض الكيلومترات، وبعض المسالك الفلاحية وبعض البحيرات الجبلية والتنمية الريفية المندمجة.
ستتواصل معاناتنا، وإن اختلفت الأسماء والأنظمة، فلا تنتظروا منهم سوى زيارة يستحضر فيها السيد الوزير أحداث معركة برقو الخالدة وسياقاتها التاريخية، مكبراً الروح النضالية العالية والوطنية الصادقة لأبناء المنطقة من أجل الحرية والكرامة، ويتحول رفقة والي الجهة والمسؤولين وعدد من المقاومين والمناضلين إلى روضة الشهداء بعين بوسعدية؛ حيث يضع أكاليل من الزهور على الأضرحة ويتلو ومرافقوه فاتحة الكتاب ترحماً على أرواح شهدائها وأحيائها المنسيين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.