طفلتي الصغيرة، احتفلنا قبل أسابيع عدة بفطامها بالقوة الجبرية من الرضاعة الصناعية، لكن بالأمس عُدنا لنجد أنفسنا أمام أزمة فطام جديدة من نوع مختلف، قد تحتاج منا لمضاعفة الجهد، ففي غفلة منّي وقع في يدها جهاز الجوال الذي لم يكن في الخيال أنه سوف يستميلها بمحتوياته، وأمام حاله الدهشة والحيرة، ذهبت أقلب في عقلي عن طريقة لتخليص هذا الجوال من بين يديها، دون إثارة غضبها، أو الصراخ في وجهي، بحثت عن أفضل الطرق للتعامل معها، لكن لا فائدة أمام إصرارها، ولا جدوى من إقناعها بأنه جوال خاص بالكبار، وستفجر رأسي بصراخها العالي إذا لم ألبِّ رغبتها، والقبول بالواقع الجديد، لهذا أنا أمام خيارين؛ إما أن أفكر جدياً في شراء جهاز آخر، وأترك لها جوالي، أو أعيد لها الرضاعة مرة أخرى، وهو ما سوف يدخلني في شجار آخر مع أمها.
ظاهرة ولع الطفولة بالألواح الذكية تكاد تكون واقعاً مسلّماً به في حاضرنا، بعد أن استكانت له الأسر، من ضعف الحلول وتلافي سوء الأثر على السلوك، دون معرفة سر اهتمام الطفل وشغفه بهذا الجهاز في سن مبكرة؛ إذ أصبح من الوسائل الترفيهية الناجعة في إسعاده، فيما خلق عند الآباء والأمهات حالة من القلق، خصوصاً كلما مضى الطفل يقضي جل يومه يعبث فيها، ويتعلق بها، فتراه متمرساً قد أبحر في عوالمه كسبّاح ماهر يستكشف دهاليزه في ذكاء، وتارة تراه لاعباً بارعاً في الألعاب.
وفي الآونة الأخيرة بدا على الآباء الفزع، والخوف على أبنائهم الصغار من ظهور دراسات العلماء التحذيرية التي أجريت على بعض الأطفال، والتي ركزت على سوء استخدام هذه الأجهزة بجميع أنواعها، وتأثيرها المباشر على المخ ونشاطه، ما قد يسبب قصوراً في النمو الذهني، والانزواء بعيداً عن محيطه الاجتماعي.
لكن هذه الأجهزة الإلكترونية قد تعجز النفوس عن مقاومة سحرها العجيب الذي أصاب الكبير والصغير على حد سواء، ذكراً كان أو أنثى، ما أدخل أفراد الأسرة في حالة شتات للفكر، وإهدار للمال والوقت؛ لتتعمق الأزمة كثيراً داخل المجتمع بأكمله، كلما زاد تعلقهم بتنوع البرامج، وتعدد التطبيقات؛ لتتوسع دائرة الإدمان، وتصبح لدينا نماذج حقيقية من قلب المجتمع تعيش حالات التناقض في حياتها، وتعاني من الفتور في العلاقات العائلية، لكن سر اهتمام الطفل وشغفه بالجهاز الذكي في سن مبكرة هو المثير الذي يدعو للاستغراب والتأمل.
هناك هوس آخر أشد غرابة عند البعض، يتمثل في طريقة شراء الجهاز الجديد، تراهم في حالة سباق وتسابق على الوقوف في طوابير طويلة أمام المتاجر، منهم من يفترش الرصيف، ينام أياماً وليالي أمام المتجر منتظراً موعد نزوله للأسواق، فيقاتل من أجله؛ ليكون الفائز بالجهاز الأول قبل الجميع، ولا يعرف ما هي القيمة الاجتماعية التي سوف يمنحه إياها هذا الجهاز عندما يحصل عليه أولاً، وهو يدرك أنه سيكون في متناول الجميع خلال اليوم أو بعد أيام أو أسابيع أو أشهر.
لقد دخل هذا الاختراع الذكي القلوب، واستمال العقول، حتى أصبح يجاذب الجيوب في ثمنه أغلب فئات المجتمع دون استثناء، وبالذات من هم يشكون شظف العيش وغلاء الأسعار، تجدهم يزاحمون الأغنياء على اقتنائه.
وكلما تسابقت شركات التطبيقات في تفعيل خاصية الفيديو في برامجها، كلما توجست المجتمعات العربية من تزايد المهووسين بحب الشهرة، ما قد يفرز جيلاً جديداً أكثر إدماناً بالأضواء والفلاشات، فانحرفت المفاهيم، وألغيت الصورة النمطية كجهاز اتصال وتواصل إلى جهاز إفراغ وإشباع للغرائز، وتطور الحال حتى دخلنا مرحلة العقم في المشاعر، والتبلد في الأحاسيس، فجاءت الصور والمشاهد غير مألوفة، ضاربة بالقيم والأخلاق الحميدة عرض الحائط، فالمرأة لم يعد لها خصوصية أو حصانة في عالم المعلوماتية، فأصبح التحرش بها في الأماكن العامة مشهداً معتاداً، وتعددت هنا أشكال المشاهد المسجلة حتى غدت تنافس شهرة المشاهير في المجالات الأخرى، لكنها تبقى ممارسات شاذة تزعج الذوق العام، هي حالات أقرب لعقوبة القانون، وللمعالجة الصحية النفسية.
لم يعُد يأمن الإنسان في حياته من اللوح السحري، ولا على خصوصياته، بعد أن اخترق جدران المنازل، وأخضع البعض لابتزاز أصحاب النفوس المريضة، بل لم يعد يشكل خطراً على صحة أطفالنا، وصحتنا فحسب؛ إذ وصل خطره إلى البيئة وتلوثها من جراء إتلافه، وكذلك افتعاله للحرائق، وحوادث السيارات القاتلة على الطرقات.
لقد اقترب منا العالم كثيراً، واقتربنا منه أكثر من ذي قبل، بفضل تكنولوجيا المعلوماتية التي حققت للبشر نقلة نوعية، اجتماعية، ومعرفية، كان في الزمن الماضي القريب مجرد خيال يصعب تحقيقه، حتى أصبحنا الآن نعيشه واقعاً ملموساً.
لقد حان الوقت للحكومات العربية أيضاً في البدء في تفعيل القوانين الرادعة، التي تضع الحد للفوضى الأخلاقية داخل المجتمع الإسلامي، ومن ثم كبح جماح هؤلاء المصابين بأمراض الشهرة ووضع الخطوط الحمراء لهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.