عاش المغرب نهاية أسبوع على صفيح ساخن تتالت فيها الأحداث بشكل مسترسل، فقد تعرض أحد المواطنين المغاربة لحادث طحن داخل شاحنة لجمع النفايات مما أفضى إلى مقتله و تحرك الشارع المغربي في مظاهرات غاضبة تطالب بالاقتصاص لتاجر الأسماك محسن فكري رحمه الله و تحديد المسؤولين عن الحادث و وقف مثل هذه الممارسات التي تصنف في إطار الشطط في استعمال السلط أو ما درج المغاربة على تسميته ب"الحكرة" (الاحتقار). في مقابل هذا الموقف، عجت وسائل التواصل الاجتماعي برسائل التحذير من الخطر المحذق بالبلاد بسبب المظاهرات و استغلالها في إطار مؤامرة خارجية لأعداء الوطن و الاستقرار الذي ينعم به، و الذي وجب المحافظة عليه و الاتعاظ من مصير الربيع العربي الذي استحال إلى فوضى و دمار و حرب أهلية في سوريا و اليمن و ليبيا…
في البداية لا بد من التوطئة التالية: ما وقع في بلدان الربيع العربي من تدخلات أجنبية أحبطت الثورات و انتكست على إثرها الأوضاع إلى حروب أهلية أو فوضى عارمة ناتج بالضرورة عن قوى الاستبداد التي قاومت التغيير و ضحت بشعوبها في سبيل استمرار تحكمها، و ذلك بمساندة قوى خارجية تروم في نهاية المطاف تحقيق أجندات جيوستراتيجية و صراع نفوذ بين القوى التقليدية دوليا و إقليميا. ليس للشعبين السوري و الليبي ذنب لحظة انطلاق الثورة في الاستعمال المكثف للرصاص الحي و الاعتقالات العشوائية و حملات الإبادة ضد المعارضين. ليس الشعب المصري من اختار الانقلاب و رفض إعمال الديمقراطية و فض التظاهرات بالنار و الحديد و ألجم ألسنة الناس و سحق قدرتهم الشرائية و ولى عليهم فرعونا جديدا لا يريهم إلا ما يرى.
ليس الشعب اليمني من أعاد المخلوع على دبابات الحوثيين الإيرانية التموين و أدخل البلد في حرب بالوكالة بين دول التحالف العربي و الموالين لإيران…تبقى كل عمليات التخويف و الترهيب من المسلسل السوري أو الليبي مجرد فزاعات ترفع من هذا الطرف أو ذاك لخدمة مصلحة ذاتية و آنية تختزل الوطن في تحققها، بل من المعيب أن تتم المتاجرة بمآسي الشعوب و تخويف المواطنين من مآلات المطالبة بالحقوق مقابل الأمن و الأمان المقترن بالفساد المسكوت عنه.
لنعد لما وقع في الحسيمة: إن التحليل المنطقي للحادث المؤلم يفترض ترتيب الأوراق وفق تسلسل منطقي من خلال إبراز المسببات التي أدت لوقوعه ثم مناقشة المآلات عوض الاقتصار على النظرة السطحية للأمر التي تقزم ما وقع في دعوة احتجاج أو دعوة مضادة بدافع المصلحة الأسمى للوطن، و لعل التمحيص و التدقيق في الوقائع يقودنا إلى الخلاصة التالية. ما وقع راجع بالأساس إلى تغول الفساد و استحكامه في سائر التعاملات الاقتصادية و الإدارية و من جميع الأطراف على حد سواء.
لقد اشترى المرحوم محسن فكري شحنة سمك محظور اصطياده خلال هذه الفترة بسبب الراحة البيولوجية، فمن هي الجهة التي قامت بالصيد في المياه الإقليمية المغربية؟ و كيف يغيب الجهاز المكلف بحراسة منطقة النفوذ الاقتصادي عن اداء مهمته؟ و من يملك النفوذ لجلب الشحنة المحظورة لترسو بأمان في ميناء الحسيمة؟ و من يسمح بالبيع و التحميل داخل سيارة غير معدة لنقل الأسماك؟ كل ما ذكرنا في هذه السلسلة من التساؤلات يفضي بنا إلى طرح الإشكال الأمني و مستوى الاختراق لمناطق حساسة كالحدود البحرية الاقتصادية و ميناء الصيد البحري شريان الحياة الاقتصادية في المدينة و يكشف مستوى الاستهتار بالشأن العام في سبيل تحقيق مصالح شخصية من طرف بعض المسؤولين.
من ناحية ثانية، تعتبر أنشطة الاقتصاد الأسود من تهريب للسلع و متاجرة في المخدرات رائجة في المنطقة الشمالية عموما، و ذلك لخيارات تاريخية ركزت أهم الأنشطة الاقتصادية الخالقة لمناصب الشغل وسط البلاد في مقابل تهميش باقي المناطق. و هكذا و رغم التوجه الأخير للدولة لرفع الإقصاء و التهميش عن المنطقة، فإن الأنشطة المحظورة ظلت مقصد من لا دخل له أو من يطمح في تحسين مدخوله البسيط. لقد كان المرحوم محسن فكري ممن ولجوا هذا الميدان، و عمل على ترويج الأسماك التي ليست بالضرورة غير صالحة للاستهلاك البشري، و لكن نشاط المرحوم يتم خارج المساطر و القوانين المنظمة لتجارة الأسماك. إن العشرات مثل المرحوم يتكسبون بخرق القانون في إطار ريعي يقسم الثروات وفق الحسابات و الولاءات و التوافقات، و هو ما يمكن أن يفسر دفاعه المستميث عن ماله و تجارته مادام القانون السائد هو التغطية عن تلك الأنشطة، فكيف يطبق القانون على شحنته في مقابل السماح للآخرين بارتكاب نفس المخالفات؟ و بهذا نقف على نفس الخلاصة السابقة المختصرة في استشراء الفساد و لنقل استمرائه أي القبول به و شرعنته وفق مبدإ "كما للجميع الحق في الريع، يحق لي أن أكون من المستفيدين".
يستمر تكشف مظاهر الممارسات الفاسدة في توالي أحداث الواقعة حتى لحظة مقتل المرحوم محسن فكري. فبعد مصادرة السلعة ظهر الشطط في استعمال السلط و الترامي على اختصاصات الغير و شخصنة النزاع من خلال مسطرة الإتلاف التي قرر وكيل الملك فيما بعد اعتبارها فعلا جرميا من درجة التزوير في محررات رسمية. لقد اعتاد المسؤولون الخلط بين الصفتين الشخصية و المهنية و اعتبار المتنازعين بين الإدارة التي يمثلونها و الأشخاص الذاتيين أو المعنويين الآخرين نزاعا يطعن في الشخص لذاته لا لقراره الإداري، و هذا من أخطر مظاهر أمراض الإدارة العمومية التي تخلق التوتر بين المواطن و المسؤول الإداري.
من خلال استعراض كل ما سبق نستخلص ما يلي: إن أكبر فتنة تهدد الوطن و استقراره هي استمرار الممارسات الفاسدة و محاولة إيجاد المبررات لها و جعلها المقابل الواجب القبول له للأمن و الأمان. لا يجوز بالمطلق تخوين الناس الذين خرجوا من أجل قضية محددة و هي القصاص لمواطن بسيط ضحية طاحونة الفساد التي تجاوزت الأرزاق إلى النفوس. مسؤولية الدولة قائمة في ما وقع، و لا أدل على ذلك من المتبعين في القضية من موظفين و أعوان سلطة عموميين، و الأجهزة التي ينتمون إليها تتحمل مسؤوليتها في الحادث. المسببات الحقيقية جلية و واضحة، و رد الفعل الطبيعي هو محاربتها عوض الالتجاء للأسلوب العقيم الذي يقف على المآلات دونما الخوض في منبع الإشكالات. فهل نحن مستعدون لمواجهة هذه المؤامرة؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.