تسبب وصول الأوروبيين إلى القارة الأميركية في عواقب وخيمة على السكان الأصليين، إذ وصل عدد القتلى إلى حوالي 50-100 مليون شخص. وقصص انتشار الأمراض الأوروبية مثل الجدري والتي قضت على شعوب كاملة من القصص المعروفة، إلا أن بحثاً جديداً يقدم إلينا أكثر الأدلة وضوحاً حتى الآن على الدمار الذي حدث جراء التواجد الأوروبي. إذ يُمكن أن يُرى حجم التأثير على المستوى الجيني.
كانت منطقتا "الأمة الأولى في ميتلاي كاتلا" و"لاكس كوالامس"، وكلاهما مجتمعات للسكان الأصليين في مقاطعة "كولومبيا البريطانية" في كندا، شاركت باحثين من جامعة إلينوي ومن جامعة ولاية بنسلفانيا؛ لكي يفحصوا دليلاً جينياً يمتد لآلاف من الأعوام، وفقاً لما ذكر موقع Vocativ الأميركي.
إذ يقارن المشروع عينات الحمض النووي لأشخاص لا يزالون على قيد الحياة بالحمض النووي لرفات أسلافهم الذي يمتد عمره إلى 6000 عام، بما في ذلك بعض عينات الرفات لأناس عاشوا قبل التواصل مع الأوروبيين مباشرة وبعد حدوث ذلك مباشرة.
حملة ضخمة لإجلاء السكان
يتفق التقليد الشفهي لمجتمع "ميتلاي كاتلا" وأيضاً الدليل الأثري، على أن السكان الأصليين عاشوا على ساحل مقاطعة "كولومبيا البريطانية" لآلاف السنين، لكنهم عانوا من حملة ضخمة لإجلاء السكان عند وصول الأوروبيين. وفي الوقت الحالي، يقدم التحليل الجيني ما يمكن أن يوصف بأنه أكثر دليل مباشر قد يؤكد تلك الرواية.
في مقابلة لموقع "فوكاتيف" الأميركي، قالت باربرا بيتسيلت، حلقة الاتصال مع سكان "ميتلاي كاتلا" والمشاركة في كتابة البحث: "إن ذلك يقدم لنا طريقة أخرى لتعزيز ما كنا نقول. فقد بدأت الأوبئة في الانتشار مع الاتصال بالأوروبيين، مثلما حدث مع الجدري الذي انتشر وكان له آثار وخيمة على السكان المحليين، وهم أسلاف سكان ميتلاي كاتلا".
ما لا يثير الدهشة أن الجينات الموجودة في نظام المناعة تضمنت تغيرات هائلة على العينات التي جاءت من رفات الأسلاف الذين عاشوا قبل مجيء الأوروبيين وبعده، إلا أنه كان ثمة تعديلات جينية طرأت على جينوم مجتمعات "الأمم الأولى" بالكامل. فقد قلل الاتصال بالأوروبيين بدرجة الكبيرة التنوع الجيني، أو أنه قلل العدد الكامل للخصائص الجينية، لسكان "الأمم الأولى".
ترك فقدان التنوع الجيني السكان الأصليين كلهم يعانون من قلة الحصول على الفائدة المحتملة للتنوعات الجينية؛ مما صَعَّب على السكان أن ينجحوا في التكيف مع البيئة التي تتغير بسرعة شديدة.
أمراض أوروبية
في مقابلة أخرى، قال مايكل ديجورجيو، الباحث بجامعة ولاية بنسلافانيا والذي شارك في البحث "إن كمية التنوع التي فُقدت تُقدَّر بحوالي 57%، وهي نسبة نقص كبيرة في فترة قصيرة".
على الرغم من أن التاريخ المتعلق بالاتصال مع الأوروبيين يركز في الغالب على أن نظام المناعة للسكان الأصليين لم يكن على استعداد لمواجهة الأمراض الأوروبية مثل الجدري والسل والحصبة، فإن ذلك لا يحكي سوى نصف القصة.. بينما فحص الباحثون البيانات القادمة من سكان شرق آسيا، الذين تشكلت جيناتهم وفقاً لبيئات تشبه البيئات التي واجهها أسلاف السكان الأصليين قبل الوصول إلى الأميركتين.
وعقب ذلك، أوضحت الاختلافات بين سكان القارتين أن السكان الأصليين لأميركا صاروا يتكيفون مع بيئاتهم بشكل فريد.
ويقول ديجورجيو: "قد تكمن الطريقة الوحيدة لشرح بعض الاختلافات الجينية في ظهور بعض الطفرات بالجينات المناعية عندما انتقلت تلك المجموعات إلى الأميركتين".
بعبارة أخرى، امتلك أسلاف الـ"ميتلاي كاتلا" والسكان الأصليون الآخرون أجهزة مناعة فعالة وقوية للغاية قبل الاتصال مع الأوروبيين. بَيْدَ أن وصول الأوروبيين وفيروساتهم الغريبة هو فقط ما تسبب في مواجهة تحديات جديدة كلياً.
وتعد تلك الدراسة جزءاً من جهود أكبر يقودها الباحث الكبير ريبان مالحي، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة إلينوي، بهدف مشاركة مجتمعات السكان الأصليين في البحث العلمي.
علاقة متبادلة
وتقول بيتسيلت: "في الماضي، كانت الأمم الأولى يُنظر إليها باعتبارها موضوع في مجالات البحث الإثنوغرافي والأثري بل والجيني إلى حد ما. غير أن علاقتنا مع جامعة إلينوي صارت في الحقيقة علاقة متبادلة".
وتأمل بيتسيلت ألا تقتصر وظيفة مجتمعات السكان الأصليين على أن يساعدوا الباحثين في مشروعاتهم وحسب، بل أيضاً أن يصير أبناء الـ"ميتلاي كاتلا" هم أنفسهم باحثين. ومن أجل تلك الغاية، أجرى مالحي برنامجاً صيفياً يهدف إلى تعليم طلاب السكان الأصليين، بمراحل الثانوية وحتى مراحل درجة الدكتوراه، كيف يجرون بحثاً جينياً. وقد اعتبر ديجورجيو أن تلك المشاركة أمر ضروري.
وأوضح ديجورجيو قائلاً "مجتمعات السكان الأصليين يأتون ومعهم أولوياتهم الخاصة عندما يتعلق الأمر بأنواع الأسئلة التي يرغبون طرحها والتحقيق للوصول إلى إجاباتها. وربما يأتون بآراء مختلفة حول ما تخبرنا به البيانات في الواقع".
وفي هذه الحالة، البيانات واضحة، إذ إن التقاليد الشفهية لـ"ميتلاي كاتلا" و "لاكس كوالامس" صحيحة بكل تأكيد. فقد عاشت مجتمعات السكان الأصليين على ساحل "كولومبيا البريطانية" لآلاف الأعوام، وجينات المناعة نفسها التي ساعدتهم جيداً في مواجهة بيئاتهم، جعلتهم ضعفاء بشدة عندما أتى الأوروبيون.
وتضيف بيتسيلت: "في الحقيقة نمتلك الآن دليلاً جينياً على ذلك. وبالنسبة إلينا لا تعد النتائج مفاجِئة. إلا أن الشيء الكبير يكمن في أن العلم بدأ في متابعة ما كنا نقول".
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Vocativ الأميركي. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.